انتهت المرحلة الأولى من الانتخابات التى جرت فى تسع محافظات، وكالمتوقع أمسك كل طرف من المتنافسين بتلابيب الأطراف الأخرى متهما إياها بالخروج على القانون واستخدام وسائل غير شريفة للتأثير على الناخبين والحصول على أصواتهم. قال مرشحو الكتلة المصرية إن الإخوان المسلمين ممثلين فى حزب الحرية والعدالة زائد الأحزاب السلفية قد لجؤوا إلى إدخال السماء فى المعادلة السياسية واستخدموا شعارات دينية لحث الناس على التصويت لهم، وكان المثال الصارخ الذى أوردوه هو اللافتات التى رفعها مرشح حزب النور فى دائرة مدينة نصر، مستصرخا الناس أن لا يخذلوا الإسلام وأن ينصروه على منافسه مصطفى النجار، بزعم أن الأخير هو مرشح الكنيسة!! هذا على الرغم من أن الدكتور مصطفى النجار أحد أبطال الثورة هو مرشح مصر كلها وانتخابه لو اختاره الناس يعد مكسبا حتى لمن ينافسه على المقعد، فضلا عن أن الكنيسة لم تدعمه، لكنها دعمت على نفس المقعد الفردى للفئات فوزى السيد.. لكنه الاستخدام البشع للدين فى المنافسة السياسية التى يزعمون أنها تتم لصالح الناس. ولا يملك الواحد سوى أن يتساءل عن ماهية الخير الذى قد يأتى للناس باستخدام وسائل تنطوى على الغش والكذب والخداع.. أنا شخصيا لا أرغب فى خير من هذا النوع! ومن ناحية أخرى لا يمكننا أن نغفل القوائم التى طرحتها الكنيسة ودعت الأقباط إلى الالتزام بها والتصويت لمن اختارتهم.. هذا يخرج بالكنيسة من الوظيفة الروحية ويدخلها طرفا فى المعترك السياسى ويجعل الإسلاميين يتمسكون أكثر بشعاراتهم الدينية. وفى الحقيقة لقد دوخونا وزادوا حيرتنا وكل طرف يتهم الأطراف الأخرى بأنها كانت البادئة بالجنوح، وأنهم إنما فعلوا ما فعلوا ردا على من بدؤوا بمخالفة الأصول. ولا يمكن طبعا لمن يطالع الصورة الانتخابية أن يغفل الإنفاق المفتوح على البحرى الذى سفحته القوى السياسية على مذبح البرلمان، حتى إننا نستطيع القول إن ما يتم إنفاقه على كرسى واحد بالمجلس المنتظر يفوق ما أنفقه أوباما للوصول إلى كرسى الرئاسة الأمريكية! والملاحظ أن الكل يتهم الكل بالعمالة والقبض من الأمريكان أو السعوديين أو القطريين، فضلا عن إنفاق رجال الأعمال من المال السائب المقدر بالمليارات، التى لم يتعبوا فى تحصيلها من دماء المصريين. وعند الحديث عن التجاوز فى الإنفاق أو التجاوز الأخلاقى وطعن الخصوم بالأسلحة القذرة، أو انتهاك القواعد المنظمة للعملية الانتخابية واستخدام الطرق الخسيسة التى كانت وقفا على الحزب الوطنى.. عند التطرق إلى هذا لا نستطيع أن نتجاهل أن الجرأة على القانون وعلى الأصول الأخلاقية قد نشأت نتيجة تخاذل السلطة، أو قل غيابها واستعباطها المميت وتركها كل الأطراف تفعل ما تشاء على أمل أن يسفر هذا عن حريق يشعل البلد ويكون مبررا لإلغاء الانتخابات، أو فى أقل النتائج سوءا وضع البلد على حافة الاستقطاب الحاد وتوديع السماحة واللين اللذين عرف بهما المواطن المصرى. وربما كان من التفسيرات الوجيهة لقيام السلطة الحاكمة بدور المتفرج على الكثير مما يحدث من مخالفات هو أن السلطة نفسها فى الشهور التى تلت الثورة قد اقترفت من الانتهاكات والجرائم ما يجعل مساءلتها واجبة، وما يجعلها تخجل من محاسبة أى أحد على هنات بسيطة مقارنة بما ارتكبوه فى حق شعب مصر من انتهاك الأعراض (كشف العذرية) وتعذيب المعارضين واستخدام القضاء العسكرى أداة من أدوات قتل الحوار السياسى، فضلا عن جرائم القتل الفعلية بالرصاص الحى والمطاطى والخرطوش وغاز الأعصاب ودهس المتظاهرين بالمدرعات. لكن الظاهرة التى لمحتها وسط كل هذا ورأيتها جديرة بالنظر هى أن كل فصيل سياسى فى الشارع المصرى لديه لا أقول أنصار، ولكن أنفار فاقدة للعقل والرؤية، تثق بالكبير فى الفصيل وتمنحه ثقتها على بياض ولا تجادل أبدا فى ما يصدر إليها من أوامر، لهذا يمكن حشدهم بكل سهولة ودفعهم إلى التصويت فى الاتجاه المطلوب. ومن الغريب أن هذه القطعان لا تنتمى إلى الفقراء والجهلاء فقط، ولا توجد فى الريف أو الأحياء الفقيرة فقط، وإنما تتوزع على كل مكان بالبلد، ويتكون أفرادها من الطبقات الموسرة والفقراء ومن المتعلمين والأميين. وليس الإخوان فقط أو السلفيون فقط هم من يملكون أنفارا تقر بالسمع والطاعة وتخرج بناء على إشارة من الزعيم كما يحلو للبعض أن يتندر، وإنما الليبراليون واليساريون يشكلون كتلا يمكن سوقها ودفعها إلى التصويت الموجه، بعضهم بإشارة من صاحب الحزب أو رجل الأعمال وبعضها بتعليمات وأوامر مباشرة من الكنيسة! والحديث هنا لا يخص ما يعرفه العالم كله من توجه الناخبين بالتصويت إلى الأحزاب التى يفضلونها والكتل السياسية التى اطلعوا على برامجها وتوحدوا مع ما جاءت به، لكننى أتحدث عن التصويت بالأمر لأناس لا تعرفهم ولا تفهم أى حزب يتبعون وأى أفكار يعتنقون، لكنه فقط السمع والطاعة للزعيم والأمير والقسيس. وبطبيعة الحال فإن كل ما سبق لا يتضمن التصويت من أجل نفحة مالية أو رغيف كفتة أو زيت وسكر وصابون، لكنه عن أنفار تصويتية يظن بعضها فى أنفسهم أنهم مجاهدون، ويظن البعض الآخر فى أنفسهم أنهم مستنيرون.. وهم لا هذا ولا ذاك!