المبدع الحقيقى لا بد أن يتحلى بالثقة بالنفس، وهذه الثقة هى التى تجعله لا يخشى ارتياد عوالم جديدة والانطلاق فى فضاءات رحبة والتحليق فى الخيال حتى ملامسة عنان السماء. لكن الثقة بالنفس هذه لا تتأتى إلا من خلال الثقة بالمتلقى والتأكد من أن الصلة التى تربط بينه وبين المبدع هى صلة قوية تسمح له بتقديم كل جديد وغريب دون أن يخشى أن ينصرف عنه المتلقى أو يتهمه بالجنون. إذن الثقة المتبادَلة ضرورية، بل أساسية من أجل خروج حالة إبداعية جديدة وغير مسبوقة. وكثير من المبدعين لم يستطع فى باكورة أعماله الأولى أن يسفر عن جنونه الحقيقى، فكتم حقيقته عن الجمهور خشية أن يكون عمله الأول هو عمله الأخير! على سبيل المثال فإن أفلام يوسف شاهين الأولى كانت تقليدية للغاية ولم تخرج عن إطار الحدوتة المعتادة حتى إنه لم يبرع فى تقديم هذه الحواديت كما كان يقدمها غيره من المخرجين التقليديين. هذا على الرغم من أن شعلة الإبداع والجنون كانت موجودة منذ البداية، لكنه طواها وخبأها داخله حتى عرفه الناس وصار له اسم معروف.. بعدها استطاع أن يقدم للجمهور سلسلة من شطحاته الإخراجية التى وضع فيها روحه الحقيقية دون خوف ولا تردد! وسواء اتفقنا مع ما قدمه أو اختلفنا، أحببنا أفلامه أو سخطنا عليها، فلا شك أنه كان مبدعا من طراز خاص وأن إبداعه لم يظهر بالشكل الذى يريده إلا بعد أن اكتسب الثقة بالنفس وعرف أن له جمهورا يمكن أن يتفاعل جدليا مع ما يقدم، وساعده على هذا وجود جهات إنتاجية دعمته دون أن تنتظر ربحا! كذلك لا نستطيع أن نتحدث عن الجنون فى الفن دون أن نعرج على فنان عربى جميل هو زياد رحبانى الذى لا يزال يفاجئنا مع كل عمل بنغمات جديدة وأشكال موسيقية غير مألوفة، فضلا عن كلمات لا يجرؤ سواه على تقديمها ولا تخطر فى الأصل على مخيِّلة فنان عادى ممن يكتبون أغانى تقليدية عن الحب والهجر والوصال والدلال. فهل كان يستطيع أحد غير زياد ابن فيروز العظيمة وسليل الرحبانية أن يكتب أغنية تقول: «كان غير شكل الزيتون.. كان غير شكل الصابون.. وكاين انت يا حبيبى.. مش كاين هيك تكون.. كان أوسع ها الصالون.. كان أشرح ها البلكون.. وطبعا إنت يا حبيبى.. حبك كان قد الكون.. شو كان أهدا الكميون.. طالع دوغرى وموزون.. وحتى عيونك يا حبيبى.. كان عندك غيرها عيون.. كان يبقى الحب جنون.. يخلص بحرف النون.. مش كل إنسانة تمرق.. تفرق وتصير تمون.. كاين رقة وحنون.. ومايل ع الغصون.. واذا هلق حبك غيّرنى.. يتوه عمره ما يكون». أرأيتم كل هذه الصور الجديدة والطازجة وغير المألوفة التى لم يفكر فيها مؤلف أغانٍ من قبل؟ ولا أعتقد أن زياد رحبانى كان يستطيع أن يخرج على الناس بهكذا كلمات إلا بعد أن اكتسب الثقة وعرف أن له رصيدا لدى الجمهور يسمح له بالتفنن والتحليق. ومن واقع تجربتى الشخصية يمكننى أن أقول إننى تهيبت فى البدايات من نشر أشياء خشيت أن يظن القارئ بى بسببها مسًّا من الجنون، ولكن بعد أن قطعت شوطا قدمت فيه للقراء أشياء مما اعتادوه سمحت لنفسى أن أنشر ما أحبه ولا يتوقعه القارئ، وعندما أتى رد الفعل إيجابيا ومشجعا لم أتردد بعدها فى أن أكتب كل ما خطر على بالى حرفيا دون وجل! الثقة بالنفس ضرورية للغاية لتقديم الجديد والغريب والمفاجئ، ومن دونها سنظل ندور حول أنفسنا ونحكى ذات القصص ونضحك على نفس النكت ونموت من السأم والملل.