هذه العلاقة انتهت منذ ما يقرب من نحو ربع قرن، ومع ذلك لا يمكننى أبدا أن أنساها! فبعد رحيل أبى، كان واجب علىِّ أن أعمل وأترك تعليمى، ولكنى اجتهدت كثيرا حتى استطعت أن أصل بمعجزة إلى الجامعة، وهناك تعرفت إليها، إذ كنا زملاء فى قسم الفلسفة بكلية الآداب، وكنت أكبر من زملائى، وكانت هى صغيرة جدا، وجميلة جدا، كما كانت تأسرنى بلطفها ورقتها وبساطتها، وفى كل يوم سبت كانت محاضراتنا تنتهى متأخرا، فأسير معها وحدنا حتى بيتها غير البعيد عن الجامعة. ويوما بعد يوم توثقت العلاقة بيننا، حتى أصرت ذات يوم على أن أصعد معها إلى بيتها، وألتقى بأمها وأختها الصغيرة! بيتهم الجميل أثار شجونى، ومستوى تعاملهم الراقى أفزعنى، إذ شعرت أننى لست كفئا لها على الإطلاق، وقد صارحتها بصدق بكل ذلك، إذ حدثتها بوضوح عن ظروفى الصعبة، وأحوالى المتواضعة، ولكنها شجعتنى كثيرا على التقدم لطلب يدها من أهلها الطيبين، فكيف كان يمكن لى أن أتقدم لها، وأنا لا أملك أى شىء، وفى رقبتى أمى، وأخوتى الصغار؟ كنت على يقين أن زواجنا حتى لو حدثت معجزة وتحقق، فمصيره بالتأكيد الفشل الذريع. فتركتها لتسعد بحياتها الراقية، بعيدا عن فقرى وغلبى ومشكلاتى... مرت بنا السنوات سريعا جدا، ولم أعد أعرف شيئا عن حياتها، ولا عن أحوالها، وإن كنت سمعت أنها تزوجت، وسافرت خارج مصر، وبعدذلك تزوجت أنا أيضا، وبقيت فى بلدى أعانى، ثم أنجبت ولدا وبنتا، وحاولت بشتى الطرق أن أحقق لهما حياة لم أنعم بها، وعلى الرغم من أننى تزوجت من نفس بيئتى المتواضعة، فإننى بعد فترة من الصبر والجلد، أعترفت بفشلى فى زواجى التعس! وهنا علىِّ أيضا أن أعترف بشجاعة أننى ولا بد شريكا فى الوصول إلى هذا الفشل العاطفى مع امرأة لم أحبها يوما، ومع ذلك تزوجتها! ولعلها أيضا لم تحبنى كثيرا، أو ربما أحبتنى فى مرحلة ما، ولم تجد من جهتى العاطفة التى تنتظرها. فى الحقيقة من الصعب أن تضع يدك على سبب واحد للفشل فى علاقة إنسانية معقدة، فالعلاقات بين البشر متشابكة إلى درجة تثير الحيرة أحيانا، واللخبطة أحيانا أخرى! وبعد مرور كل هذه السنوات الطويلة، ومن حين لآخر أجدنى مشغولا بالتفكير فى ما حدث مع ناهد، وفى ما كان يدور بيننا من أحاديث وحوارات، فما زلت حتى الآن أتذكر بعض كلمات هذه الصغيرة، التى تعلق قلبى بها من سنوات بعيدة، كما أنها تعلقت بى، بل وتشبثت بفكرة زواجنا المستحيلة، ودافعت عنها بكل ما تملك من قوة وإصرار وشجاعة، لكنى للأسف الشديد خذلتها بجبنى وضعفى وتراجعى، ولعلنى كنت أحسب أننى أضحى بحبى الوحيد من أجلها، أو من أجل سعادتها، والآن ما زلت من حين لآخر أتساءل: ماذا كان سيحدث لنا لو كنا تزوجنا؟ (هذه أول قصة قصيرة أكتبها بعد الثورة، ولعلها تكون باكورة مجموعة قصصية جديدة).