الشعب المصرى كله يحتشد فى ميدان التحرير، رجالًا ونساء، شبابا وشابات، صغارا وكبارًا، جميع التيارات السياسية والجبهات المستقلة. كل من وُلد على أرض مصر جاء ليسترد كرامة مصر. كل من أعطاه الوطن الجنسية وقف رافعا العلم المصرى يهتف هتافا واحدا متجانسا «الشعب يريد إسقاط النظام». لم تذهب هبّات المارد المصرى هباء ولم تتحد قواه عبثا، فقد سقط النظام كما تسقط أوراق الشجر فى الخريف وكما يسقط الحياء فى قلب العشاق. لم تهدر تدفقات الشلال المصرى، وتم إغراق بؤر الفساد وأوكار مافيا الأرض والبشر. ولأننا ندرك معنى الثورات فلن نقول إن كل شىء قد أصبح على ما يرام وإن جميع منافذ الفساد قد سُدّت، وإن كل مطالب الثورة قد تم تحقيقها، وإن الشعب الثائر قد أمسك بزمام الحكم. الثورة مسيرة نحو الشمس. وليس معقولا أن نرى النور فجأة بعد أشهر معدودات، وقد عشنا أزمنة لا تُعد نفتقد الضياء. لا بد أن تأخذ الثورة كل الوقت الذى تحتاج إليه. ما أسهل أن نهدم ولكن ما أصعب أن نبنى، كما أننا لا نتفق مع الآراء التى بدأت تغير رأيها فى الثورة من التضامن والتأييد والامتنان إلى الشك والعداء والعتاب. آراء تحمّل الثورة مسؤولية التسيب الأمنى والفوضى وتفكك هيبة الحكومة وانتشار الجرائم من المسجلين والبلطجية. أعتقد أن فهم معنى الثورة الذى يتضمن الاستئصال الجذرى وإعادة البناء وتسليم القيادة إلى أجيال أمينة على مطالب الثورة والتخلص من أتباع البنية القديمة غير الثورية ورسم خريطة الوطن من جديد وإنشاد أغنيات ثورية وصناعة أفلامها روح الثورة وعرض مسرحيات تستلهم مزاج الثورة وكتابة قصائد بمذاق الثورة.. كل هذه الأمور وغيرها تحتاج إلى زمن طويل. أعتقد أن سفينة الثورة لن تغرقها الأمواج العاتية ولن يدمرها الرصاص المنطلق من هنا وهناك. كل ما تحتاج إليه الثورة هو مزيد من الإيمان بها والتوقف كل فترة لضبط الاتجاه وتعديل الدّفة وإمدادها بالوقود اللازم لإكمال المسيرة. ومن هذا المنطلق أخاطب الثورة المصرية، فالرجل المصرى حين خرج إلى ميدان التحرير لإسقاط النظام السياسى لم يكن يدرك أن النظام السياسى المستبد بالضرورة يسنده نظام ثقافى مستبد مثله. حين هتف الرجل المصرى «تحيا الثورة» يبدو أنه لم يعرف أن الثورة لا تكون ثورة حتى يتم «التطهر» من كل الأنظمة الديكتاتورية الظالمة، وأنه لا بد كما ثار ضد مبارك فى حكم الدولة أن يثور ضد سى السيد فى حكم البيت. وقد لاحظت عند مناقشاتى مع غالبية الرجال المصريين الذين احتشدوا أياما وليالى فى ميدان التحرير وفرحوا لإسقاط رأس النظام السياسى أنهم غير ثائرين فى علاقتهم بالنساء. ولماذا يثورون وهم راضون تماما عن الثقافة الذكورية التى تضع الدستور الحاكم لمصير وحقوق وإنسانية وكرامة وأدوار النساء؟ المفارقة أن الدستور الذكورى هو دستور استبدادى من الدرجة الأولى، دستور عبودى من الطراز المعتق، دستور لا يؤمن إلا بالمرأة المختونة فى كل شىء، ورغم ذلك يمر على الرجال مرور الكرام وهم يضحكون أو يسخرون أو يلقون النكات التى ترسخ من الذكورية. كيف للرجل أن يرى الظلم الواقع على المواطن المصرى وهو الاستبداد السياسى. ولا يرى الظلم الواقع على المواطنة المصرية وهو ظلم مزدوج الاستبداد السياسى والاستبداد الذكورى معا؟ قال لى أحد الرجال المصنّف على أنه مستنير تقدمى مستقل حر ديمقراطى «الثورة ثورة إنسان وليست ثورة رجل أو ثورة امرأة الاستبداد السياسى لا يفرق بين رجل وامرأة. والظلم ينال من الجميع بصرف النظر عن البيولوجيا». قلت له: جميل أنك لا تحكم على المرأة بوضعها البيولوجى ولكن كإنسانة. ولكن المجتمع كله قائم على التمييز البيولوجى ضد النساء لصالح الرجل، بحكم قانون الزواج والطلاق فإن للزوج أن يمنع زوجته من الذهاب إلى مظاهرات ميدان التحرير ويمكنه أن يطلّقها لأنها لا تطيعه وتضيع وقتها فى السياسة ولا تطبخ ولا تخدم الأولاد. أليس هذا صحيحا؟ لماذا لا يوجد شىء اسمه طاعة الزوجة أو طاعة المرأة؟ لم يرد الرجل المستنير التقدمى المستقل الحر الديمقراطى. لا أعتقد أن هذا الرجل استثناء بل إنه أسلوب التفكير النموذجى للغالبية من الرجال والنساء أيضا. تفكير متناقض مزدوج انتهازى متسلط غير نزيه غير عادل غير إنسانى غير جميل غير صادق غير ثورى. إنه أيضا تفكير أنانى. فالرجل يريد لنفسه الانعتاق من قيود الحاكم السياسى المستبد لكنه يريد امرأة من صنف العبيد أو من فصيلة الجوارى لا تريد الانعتاق من استبداده هو الشخصى فى كل أمور حياتها وكأنها قطعة من ممتلكاته الخاصة. ولماذا نقول «كأنها»؟ المرأة فعلا قطعة من المقتنيات الشخصية للرجل يفعل بها ما يشاء وقتما يشاء أينما يشاء. «مراتى وأنا حر فيها»، «الست بتاعتى»، « طاعتى واجبة عليكى»، «لازم تسمعى كلام جوزك»، «استحمليه كل الرجالة كده»، «تطّلقى؟ ومين يوكلك وتروحى فين؟»، «اصبرى.. كله يهون عشان عيالك»، «ضل راجل ولا ضل حيطة». هذه بعض من بنود الدستور الذكورى الذى يتكفل بالإبقاء على تفوق الرجل ودونية المرأة داخل الأسرة المصرية. والأمر الأكثر سوءا أن غالبية النساء يساعدن الدستور فى إتمام مهمته باتخاذ موقف الرجل. نجد أن المرأة نفسها فى أحيان كثيرة تؤمن بأن للذكور حق الامتياز فقط لأنهم ذكور. أو نجدها تدرك التسلط الذكورى لكنها لا تعلن موقفها الرافض خشية كلام الناس وتهكمهم عليها وخوفها من اتهامات المجتمع ورغبتها فى إرضاء الرجال وعدم إثارة حفيظتهم أو أن ظروفها الاقتصادية تجعلها تفضل «ضل الراجل» عن «ضل الحيط». إن الثورة التى لا ترفض الاستبداد الذكورى مثلما ترفض الاستبداد السياسى لن يكتب لها النجاح. لأنها ستصبح مثل طائر يريد الطيران بجناح واحد. أو مثل الإنسان الذى يريد أن ينزل إلى البحر دون أن يبتل. ثورة فقط من أجل سواد عيون الرجال، ثورة لا بد أن تُحذف من قاموس الثورات. من واحة أشعارى ثورة لا تحتضن صرخات النساء ثورة تعادى الأرض تخاصمها السماء