عسكرة ميدان التحرير نموذج رمزى لعقلية قديمة ترى السيطرة بالعسكر أعلى غايات الأمل. نموذج.. يثير الضحك والغضب معا. لماذا يقف كل هؤلاء العسكر 24 ساعة كأنهم فى استعراض للقوة أو للمكانة؟.. لكنه استعراض فاشل يعبر عن ضعف وعجز فى السيطرة. عقلية قديمة تريد الاستمرار رغم نفاد رصيدها، ورغم أنها أوصلت مصر إلى الكارثة. لماذا يستنسخ المجلس العسكرى موديل مبارك فى الحكم؟ لماذا يريدون أن يصبحوا 20 «مبارك»؟ الثورة صنعتها عقلية جديدة.. خيّال لم يدجن. وكان يمكن الاعتراف بفضل هذا الخيال فى إنقاذ مصر، لكن الرد الطبيعى من عقلية حكمت 60 عاما كان محاولة التدجين.. وهنا اشتعل الصراع بين «الثورة» و«المجلس العسكرى» والمجموعات التى يستقطبها حوله. الاستقطاب هنا يلتقى عند عقلية قديمة جدا ترسم شكل الحكم ومفاهيم الوطنية وثقافة التعامل مع السلطة. هذه العقلية حولت أنظمة التحرر الوطنى من الاستعمار.. إلى أنظمة «استعمار وطنى» لا أعرف متى سمعت أو استخدمت هذه الكلمة؟ لكننى وجدتها فى مقال كتبته فى «الدستور» قبل القرصنة. الكلمة وقتها (وكانت تقريبا فى العام 2009) سيطرت على تفسيرى للأحداث الأخيرة.. تبدو مصر تحت الاستعمار لكنه.. وطنى.. من مصريين.. فالاستعمار هو الاستيلاء على بلد سياسيا واقتصاديا.. وإخضاعه بالقوة.. وشل إرادته السياسية.. لنهب ثرواته. وهذا ما يحدث بالضبط.. النظام خطف البلد.. استولى عليه.. وأخضعه بالقوى الجبارة للأمن (تفوق أعداد قوات الأمن مليونا أو مليونا ونصف المليون فى تقديرات أخيرة).. وبتزوير الانتخابات شلت إرادة الاختيار السياسى (والإرادة لا تعنى أن الانتخابات ستأتى بالأصلح من تلقاء نفسها.. لكنها تتيح التجربة والخطأ.. وتداول السلطة).. وأخيرا كل هذا يتم من أجل نهب مصر الرابع أو الخامس.. استعمار بكل ما تعنيه الكلمة من شعور بالقهر والعجز السياسى. الفارق الوحيد أن الاستعمار من بين مشروعاته البناء.. والإعمار (منها يأتى أصل الكلمة).. لأن الفكرة هى إقامة مستوطنات خارج حدود الدولة الغازية.. وتكون امتدادا لها فى نفس الوقت. الاستعمار الوطنى فى مصر تمتع بأنانية مفرطة.. ولم يهتم بالبناء.. بل هدم وحرق وأشاع الفساد فى البلاد، مما يقولون فى كتب التاريخ التى تتناول عصور الانحطاط. باشوات الاستعمار الوطنى.. كانوا السبب قبل ثورة 25 يناير فى حالة الحنين إلى باشوات عائلة محمد على. الناس كانت تنظر إليهم باعتبارهم رمز الزمن السعيد. زمن بناء النهضة. وقتهم كانت القاهرة مدينة جميلة. 25 يناير صنعت حلما جديدا، لكن عقلية الاستعمار الوطنى تدافع عن مواقعها بشراسة متناهية. وبدلا من استبدال عقلية متحررة بعقلية «الاستعمار» واحتلال «المواقع».. لم يجد المجلس سوى السيطرة وإغلاق الميدان ومظاهر العسكرة التى تبدو مرعبة فى نفس الوقت الذى تبدو فيه مضحكة. الثورة علم تغيير العقليات والقيم، هذا ما لم يفهمه المنتمون كليا إلى العقليات القديمة، الحرية تقلقهم وتهدد سلطتهم، لأنها تعتمد على قانون جديد، لا تسقط إليه الأوامر من أعلى. المجلس يحكمه هرم سلطوى، لكن هذا يصلح داخل المؤسسة العسكرية.. وهذا جزء من انزعاج المجلس، لأنهم انتقلوا إلى مجال آخر بدون استعداد لتحمل قوانينه، فالسياسة ليست أوامر، السياسة لعبة إقناع وتفاوض، وفى الدول الديمقراطية تتم هذه اللعبة فى إطار حرية لا يمنحها أحد . لماذا لا يفكر المجلس العسكرى من جديد: من السهل أن تحكم شعبا بعقلية قديمة، لكن هل تضمن أن لا تصل إلى نفس الكارثة؟ من الذى أوصل مصر إلى هذا الوضع الذى يرى فيه الثوار 20 «مبارك» فى المجلس، ويرى الجنرالات الثوار «شوية عيال»...؟ مصر لن تعود إلى «الاستعمار الوطنى».. ومن يفكر فى هذا فإنه يفتح أبواب الجحيم. ومن يفكر فى الانتقام من «عيال التحرير» وإعادتهم إلى البيت فإنه يقود مصر مثل مبارك إلى كارثة.