ألفت كتابا عن القذافى باسم «فتى الصحراء» وهو الاسم الذى اختاره بنفسه من بين خمسة أسماء مقترحة.. ومن أول الكلام ألّفت هذا الكتاب والقذافى فى بداية سنوات حكمه عندما كان زعيما واعدا، وخليفة جمال عبد الناصر.. وقد سمعت بنفسى الزعيم الخالد وهو يمنح القذافى هذه الصفة أو هذه القيمة فى طرابلس وأمام جعفر نميرى وآلاف من الجماهير التى احتشدت لترى عبد الناصر.. حتى عندما وقف جعفر نميرى ليتحدث صاحت الجماهير ناصر.. ناصر.. فسكت ونزل.. ووقف القذافى ليتحدث وهدرت الجماهير ناصر.. ونزل. كان ذلك عقب مؤتمر الدارالبيضاء الذى انعقد فى المغرب لتأييد ومساعدة مصر بعد هزيمة 1967 القاسية، وكان من المقرر أن أسافر على الطائرة التى كانت ستحمل الزعيم الخالد إلى الدارالبيضاء ثم يمر بليبيا ثم القاهرة. تخلفت عن ركوب طائرة الرئيس، وطلب منى السيد محمد فائق وزير الإرشاد (الإعلام فى ما بعد) أن أسافر إلى ليبيا لأرى وأكتب ما سأراه فى بلد الثورة الوليدة. وسافرت ضمن بعثة التليفزيون المصرى، وفى يوم وصول الرئيس عبد الناصر إلى ليبيا قادما من المغرب ذهبت إلى مطار طرابلس فى زحام كيوم الحشر فقد خرجت ليبيا كلها لاستقبال الزعيم الأكبر. وتصادف أن أقف بجوار معمر القذافى، الشاب النحيل والكاب الأحمر يكاد يقع من غزارة شعره، وتعارفنا واتفقنا على اللقاء بعد الاستقبال. وبدت الطائرة التى تحمل الرئيس ناصر تتهاوى نازلة على أرض مطار طرابلس وهبّت عاصفة من الجماهير فى اتجاه الطائرة جرفتنى والقذافى فى طريقها، وطار الكاب الأحمر من على رأس العقيد، وذبنا فى الجماهير المحتشدة. كان علىّ أن أصعد إلى طائرة الرئيس ناصر سريعا لأستدعى المذيع الذى كان برفقة الرئيس وهو صلاح زكى فبذلت المستحيل حتى وصلت إلى سلم الطائرة وصعدت الدرجات وإذا بى أرى الرئيس عبد الناصر نازلا ومد يده بالسلام ولعله ظن أننى أحد مستقبليه، ثم وضع يده على كتفى نازلين سلم الطائرة، وأخذت أنادى كالمجنون: صلاح.. صلاح.. وتركنى الرئيس عندما وصل إلى أرض المطار والتف حوله المستقبلون وكان هذا أول لقاء لى مع قائد الثورة الليبية، ولكنه لم يكن آخر لقاء. بعد سنوات قُدِّر لى أن ألتقى القذافى فى ظروف مختلفة، وللمرة الثانية كان لقاؤنا خاطفا، ففى أوائل التسعينيات كانت كتب «المغامرين الخمسة» و«الشياطين ال13» التى أكتبها قد حققت رواجا ضخما، وكانت «دار المعارف» تطبع 100 ألف نسخة شهريا تنفد ويُعاد طبع 20 ألف نسخة أخرى فى منتصف الشهر. وذات يوم جاءنى اتصال تليفونى من ليبيا من شخص اسمه إبراهيم إبجاد، يطلب منى قبول زيارة ليبيا من أجل تأليف روايات مماثلة لروايات «المغامرين الخمسة» أبطالها ليبيون. وقد تكرر هذا الطلب من السعودية والكويت. كان إبراهيم يمثل مؤسسة «الكتاب الأخضر» الذى ألفه العقيد فى ذلك الوقت. وقبلت الطلب ولكنى أجلت التنفيذ. وقد استمر هذا التأجيل عامين كاملين، فقد كنت مشغولا بكتابة «المغامرين الخمسة» و«الشياطين ال13» أى أننى كنت أكتب مغامرتين فى الشهر. وأخيرا جاء موعد السفر وكانت لى شروط أوفوا بها، ولكن أول صدمة كانت أنهم أخذونى من المطار إلى فندق متواضع رفضت النزول فيه.. ولم يكن فى طرابلس فندق آخر 5 نجوم سوى الفندق الكبير «جراند هوتيل» وكان مشغولا ومزدحما بوفود الدول العربية التى كانت تعقد مؤتمرا هناك، وتدخلت المخابرات الليبية وأزاحوا أحد أعضاء الوفود ونزلت فى الفندق الكبير. خلال العامين كنت قد أعددت 3 كتب مغامرات بأبطال ليبيين، وسلمت الكتب للأخ إبراهيم. وبدأت سلسلة مفاوضات عن أجرى، وطلبت مبلغا معقولا هو ضعف أجرى من «دار المعارف» ونسبة مئوية من المبيعات، والتفاصيل كثيرة. ثم جاؤوا لى بالكتاب الأخضر لأعيد كتابته للشباب حتى يفهموا فلسفة العقيد، ثم جاءت المفاجأة الكبرى.. طلبوا منى أن أكتب كتابا عن العقيد نفسه ووعدونى بلقاء العقيد لأسأله عما أشاء عن تاريخ حياته. وجدت نفسى محاصرا بطلبات فوق طاقتى من ناحية، ومن ناحية أخرى تحتاج إلى عودتى إلى القاهرة.. إلى منزلى وكتبى والطقوس التى لا بد من توفرها لأكتب. وقلت للأخ إبراهيم إننى فى حاجة إلى العودة إلى القاهرة، فقال لى جملة واحدة فاصلة: لا بد من مقابلة العقيد أولا. سألته عن الموعد فقال لى: خلال أيام. وانتظرت الأيام المطلوبة ولم يتحدد موعد العقيد، ثم قال لى مَن يعرف: إنك قد تنتظر شهرين أو ثلاثة قبل أن تقابل العقيد.. ثم أضاف: ولا تستطيع مغادرة ليبيا قبل أن تلتقيه. وأحسست أننى وقعت فى فخ، ولكن كانت هناك مفاجأة ثانية أو ثالثة فى انتظارى، فذات صباح مبكر، ربما الرابعة أو الخامسة صباحا سمعت دقا على بابى، وإذا أنا والعقيد وجها لوجه.. فقال: صبحك الله بالخير.. فشكرته، ثم أضاف: ما تجلج «لا تقلق».. ح اشوفك جريب «سأراك قريبا». نقلت مخاوفى لإبراهيم إبجاد الذى نشأت بينه وبينى صداقة حقيقية، فقال لى إنه سيبحث مع رؤسائه فى مؤسسة «الكتاب الأخضر» كيف تُحل المشكلة، وجاء الحل بأسرع مما توقعت فقد اتفقوا على أن يسلموا لى أوراقا غاية فى السرية هى تفريغ لشريط على الورق للعقيد معمر القذافى يتحدث فيه عن حياته منذ صباه وحتى قيام الثورة.. وطلبوا منى أن أحتفظ بهذه الأوراق وأسلمها إليهم بعد انتهاء الكتاب.. ووعِدت بذلك. كان الحل السعيد مفاجأة كاملة.. وعلى الفور أعددت حقيبتى.. وأنا أسافر دائما بحقيبة واحدة.. وكانت المشكلة أن معى مبلغا كبيرا من المال بالدينار الليبيى كنت قد أخذته كعرابين لما سأكتب، وكنت أريد أن أنفق بعضه فى بعض المشتريات، ولكن صديقى إبراهيم طمأننى أن الدينار الليبى عملة محترمة وكانوا يقدرون الدينار الليبى بعشرة دولارات. وعدت إلى مصر، واتضح أن حكاية الدينار الذى يساوى عشرة دولارات غير صحيحة.. وقد أعطيت جزءا مما أخذت إلى والدى القبطان البحرى، وبقى معى جزء ما زال فى منزلى. أختصر جدا ما بقى، فقد كتبت الكتاب، وجاء رسول مخصوص من ليبيا إلى القاهرة وأخذ البروفات التى أشرف على طبعها مدير مكتبهم فى القاهرة وكان ابن الصديق العزيز المرحوم عبد الله إمام. وحدثنى إبراهيم أن البروفات وصلت وأُرسلت إلى العقيد القذافى لمراجعتها وإعادتها لى مع التصويبات التى يراها. وما زالت البروفات عند العقيد.. ولا أدرى ماذا حدث بعد ذلك.. وقد وضعت نهاية العقيد المفزعة حدا لانتظارى.