أن تجرى حوارا صحفيا مع وزير داخلية عربى فى نظام اشتهر بقبضته الأمنية الشرسة دون أن تكون من أهل الثقة أو المرضى عنهم، هو بالتأكيد ضرب من الخيال. ولكن عندما يكون وزير الداخلية حاصلا على ليسانس الفلسفة من كلية الآداب قبل أن يحصل على ليسانس الحقوق من جامعة دمشق، وأن يكون سبب وجوده فى منصبه هو نضاله الحقوقى ونشاطه فى المجتمع المدنى وعمله فى الصحافة، بل إنه الآن يجلس على قمة نفس المكان الذى شهد اعتقاله وهو فى العشرينيات من عمره، فالبطبع سيكون من السهل الوصول له ومناقشته، بل ومجادلته فى جميع ما يمكن الحديث فيه عن الأمن والسياسة. فى مبنى وزارة الداخلية التونسية الواقع فى شارع الحبيب بورقيبة، الذى كان شاهدا على ثورة التونسيين التى أسقطت نظام بن على، كان ل«التحرير» هذا الحوار الذى امتد لأكثر من ساعتين مع محمد الأزهر العكرمى وزير الداخلية المكلف بالإصلاح فى الحكومة الانتقالية. الجلوس أمام الأزهر العكرمى لن يصيبك بذلك الشعور «العربى» بالرهبة من الجلوس أمام وزير، خصوصا إذا كان وزير داخلية، لكنه سيعطيك الانطباع بأنك أمام شخصية مثقفة، هادئة التفكير، صارمة فى الحديث، وإلى نص الحوار: ■ من هو محمد الأزهر العكرمى؟ - هو مواطن تونسى جاء من ريف ولاية قفصة، من حركة طلابية ثورية فى أواخر السبعينيات تحلم بحياة أفضل وأجمل، جئت أيضا من غربة استمرت لأكثر من عشر سنوات، ومن سبع سنوات من الانخراط فى المعارضة والمقاومة ضد نظام بن على، جئت من عالم الصحافة، من سنتين قضيتهما موظفا فى وزارة العدل، من سنوات طوال قضيتها فى المحاماة التونسية، التى كانت حزبا سياسيا بكل معنى الكلمة عندما كانت الأحزاب غائبة. ■ ما الذى تغير فى وزارة الداخلية التونسية منذ سقوط النظام؟ - لم يعد هناك إدارة الشؤون السياسية التى كانت ضمن إدارات الداخلية، لتلحق برئاسة الوزراء، فهذه الإدارة التابعة للأمن كانت هى التى تمنح رخصة لإصدار جريدة أو تأسيس حزب أو تنقيح قانون أساسى لجمعية مدنية، ومراقبة الإذاعات والقنوات، أما الآن فلا يتدخل الأمن فى أى شىء له علاقة بالحريات العامة من إصدار صحف أو تكوين أحزاب أو منظمات مدنية، والصحف الآن أصبحت تصدر بالإخطار. كذلك تم فصل الاستخبارات الخارجية عن وزارة الداخلية، الذى كانت مهمته متابعة وملاحقة ومراقبة المعارضين فى الخارج، أما الآن فدورها هو القيام بالانتشار فى العالم لاستكشاف الفرص الاقتصادية الجديدة التى تشكل مجالا حيويا لتونس، فنحن دولة لا تملك قواعد عسكرية، ولكن من حقها أن يكون لها مجال حيوى. ■ ما طبيعة مهمتك كوزير مكلف بإصلاح الداخلية؟ - بداية يجب أن تعلم أن مهمتى انتهت بمجرد إجراء انتخابات المجلس التأسيسى، فهو الجهة الشرعية الآن، ووجودنا فى الوزارة هو مجرد تسيير أعمال، أما مهمتى فكانت وضع خارطة طريق لإصلاح الوزارة عبر إعادة الهيكلة فى قطاعات الوزارة المختلفة بداية من المناهج فى كليات الشرطة وانتهاء بتنظيم عمل الشرطة الميدانى، وإيجاد عقوبات صارمة ونافذة على كل من يثبت تورطه فى تعذيب المواطنين. وبالنسبة لى فدورى كان تقديم تلك الخريطة التى تضمن مقترحات أخرى لإعادة صياغة عمل الشرطة، بحيث يكون عملها هو الأمن فقط، ولكن تلك الاقتراحات بحاجة إلى قوانين كى يتم تنفيذها. ■ هل تثق بأن هناك من سيأتى لينفذ تلك المقترحات؟ - ستنفذ تلك المقترحات بالطبع، فأنا هنا كى أشخص المرض وأضع له العلاج، وهناك من هو مهتم بالعلاج وحريص عليه. ■ هل واجهتك مضايقات منذ توليك المنصب؟ - الإصلاح الأمنى يشبه بيع الورثة للأراضى فى الريف، فعندما يقدم الشخص على بيع أرض ورثها فى الريف سيصطدم بعقلية الأهل التى تقول «إن أرض الأجداد لا تباع»، وهو ما وجدته هنا، بل وصلت فى بعض الأحيان إلى أن وصلتنى رسائل تهديد مجهولة، ولكن رائحتها تفضح من أرسلها، وعندما أخرجنا إدارة الشؤون السياسية فى الوزارة الداخلية وهى التى كانت منوطة بمراقبة الحريات العاملة والفردية، وقعت احتجاجات قوية داخل الوزارة ضد هذا القرار، كما أن هناك قرارات عزل وإبعاد صدرت بحق ضباط كانوا ينتفعون من مناصبهم، وبالتالى من الطبيعى أن تواجه مثل تلك المضايقات. ■ إذن هناك صعوبات فى إصلاح الداخلية، وفقا للخريطة التى وضعتها؟ - البرنامج الإصلاحى لا يعجب الجميع، رغم أنه كان نتاج أربعة أشهر من العمل الدؤوب واللقاءات مع عدد كبير جدا من الأمنيين والحقوقيين ونشطاء المجتمع المدنى ومن تجارب عاشتها دول الانتقال الديمقراطى، ولكن هذا هو برنامجى الإصلاحى الذى كلفت به، وعن نفسى أنا غير راغب فى مواصلة العمل فى الحكومة الجديدة لو طلب منى ذلك، فالبقاء فى المنصب يعنى طلبا للسلطة، وأنا لست راغبا فى أى سلطة، خصوصا أن العقلية القديمة ما زالت موجودة، وهى بما أنك وزير، فإن جميع من حولك يصبحون أكثر نفوذا وقوة، وهو ما أرفضه، فشقيقى ضابط أمن ويعمل فى منطقة تبعد عن منزله بنحو 150 كيلو متراً، وطلب منى أن أنقله إلى مكان أقرب، ولكنى رفضت. ■ كيف تعاملتم مع جهاز أمن الدولة؟ - أمن الدولة تم حله تماما، وتم توزيع من كانوا يعملون به على أماكن أخرى وقطاعات خدمية، كذلك إدارة الشؤون السياسية، التى كانت تراقب الإذاعة والتليفزيون والأحزاب والمعارضين والنشطاء، تم فصلها تماما عن الوزارة وأصبحت مهامها مهاما إدارية، تتلقى إخطارات إنشاء الأحزاب والصحف كنوع من الأرشيف والتنظيم الإدارى لا أكثر. وتم عزل 42 ضابطا من أعلى الرتب فى إطار محاسبة الفاسدين، حيث تم إنهاء خدمتهم، وهم الآن ملاحقون قضائيا، كما أن هناك أكثر من 125 ضابطا وقيادة أمنية داخل السجون، وجارِ محاسبتهم بتهم فساد وقتل متظاهرين، كما أن هناك ضباطا ملاحقين قضائيا، ولكن القضاء أطلق سراحهم على ذمة تلك القضايا. ■ هل يشعر التونسى أن علاقته بالأمن قد تغيرت، وهل يعانى الشارع من انفلات أمنى؟ - هناك بالفعل تطور إيجابى واضح فى علاقة الأمن برجل الشارع، خصوصا بعد نجاح خطة إعادة الانتشار وفقا لتنظيم هيكلى جديد يفصل بين طبيعة عمل الأمن فى قطاعاته المختلفة، كما أن هناك إحصاءات واستطلاعات رأى أجرتها الوزارة على مدى الأشهر السبعة الماضية، أشارت إلى أن 80% من ممارسات الشرطة السلبية اختفت، كما أن هناك مرسوما قد صدر الأسبوع الماضى بتشديد عقوبة التعذيب من 10 إلى 15 سنة. ■ هل هناك طريقة يتم من خلالها رصد عمل الضباط ومراقبة عملهم؟ - نعم فهناك جولة يومية على الأقسام وفى الشوراع لتفقد سير العمل ومدى الانضباط، ولكنى فى هذا الصدد أميل إلى فكرة تكوين مرصد شعبى مدنى يتولى مراقبة وتقييم أداء الجهاز الأمنى، والوقوف على أى تجاوزات قد تحدث، وقد أقوم بتأسيس هذا المرصد بعد تركى المنصب. ■ هل أسهمت الشرطة فى تأمين الانتخابات القديمة؟ - مهمة الشرطة كانت حفظ الأمن العام فى أثناء الانتخابات، أما تأمين اللجان الانتخابية فكانت من مهام الجيش، وأنا شخضيا أفضل أن يستمر العمل بهذه الآلية فى تأمين الانتخابات. ■ هل تحتاج الشرطة إلى مساعدة الجيش فى تأمين المنشآت وحفظ الأمن؟ - منذ ثورة يناير وهناك تعاون بين قوات الجيش والشرطة فى عمليات التأمين اليومية، وسيمتد ذلك إلى أن يكون هناك حالة استقرار سياسى تام فى البلاد، وهو التوقيت الذى لا يمكن التنبؤ به الآن. ■ أين الجيش التونسى من الثورة؟ - الجيش كل مهمته حماية الحدود وتأمين البلاد واستمرار الدولة، وهذا ما يؤكده الفريق الأول قائد الجيش، فهو مدنى فى تفكيره أكثر منى، فالسلطة كانت ملقاة أمامه على الرصيف يوم 14 يناير، ولكنه رفض السلطة لأنه يؤمن بأن السلطة للمدنيين، ولا علاقة للجيش إلا بتأمين الحدود وضمان استمرار سيادة الدولة.