بقدر ما يعيشه التونسيون هذه الأيام من فرحة غير مسبوقة فى حياتهم السياسية بنشوة الذهاب إلى مراكز الانتخاب والمشاركة فى الانتخابات التى ستعيد بناء الحياة السياسية بشكل كامل وحر لأول مرة منذ نحو خمسين عاما، بقدر ما حملته هذه التجربة الديمقراطية الحرة من مفارقات تكشف حقيقة ما ارتكبه الرئيس المخلوع بن على فى حق التونسيين من حرمان سياسى. وبسعادة كبيرة تشبه تلك التى شعر بها المصريون فى 19 مارس، عندما ذهبوا إلى المشاركة فى الاستفتاء، الذى أجراه المجلس العسكرى على الإعلان الدستورى، وقف التونسيون منذ الصباح الباكر فى طوابير طويلة للمشاركة فى انتخابات المجلس التأسيسى. تلك الطوابير كانت مليئة بالحكايات والمفارقات التى تكشف إلى أى مدى يتسبب حكم الفرد فى تجهيل الشعب وإبعاده عن السياسة بشكل يجعل عليه من الصعب قراءة برامج الأحزاب المختلفة، ومن ثم اختيار أحدها للتصويت له فى الانتخابات. أحمد بوريدة، شاب تونسى فى نهاية العشرينيات من عمره، وقف فى الطابور لمدة تزيد على الثلاث ساعات ونصف الساعة، ليدلى بصوته فى النهاية لصالح حزب النهضة المحسوب على التيار الإسلامى، الذى يتزعمه راشد الغنوشى. يقول هشام ل«التحرير»: «ذهبت للإدلاء بصوتى بعد ليلة طويلة قضيتها خارج المنزل مع الأصدقاء، وعلى الرغم من انضمامى إلى حزب الوفاق الجمهورى، فقد اخترت أن أصوّت لصالح حزب النهضة». وإذا سألت هشام لماذا اختار هذا الحزب تحديدا، سيقول لك إن لديه شعورا بأن ذلك هو الاختيار الصحيح، الذى سيسأل عنه يوم القيامة، مضيفا «تونس مليئة بالفساد، وبحاجة إلى حزب مثل النهضة كى يطهر البلاد والعباد من ذلك الفساد». قصة هشام ليست الوحيدة بين الناخبين التونسيين التى تكشف لك حجم التخبط والتوهان الذى كان يسيطر على نسبة لا بأس بها من تلك الطوابير التى اصطفت للمشاركة فى اختيار من سيضعون الدستور الجديد. فبعد تسعة أشهر من ثورة شعبية أطاحت بنظام زين العابدين بن على، وأطلقت صافرة الانطلاق للربيع العربى، وجدت مريم بن عيسى، وهى سيدة تونسية فى الخمسينيات من عمرها، وسط طابور طويل للإدلاء بصوتها. مريم ذهبت لاختيار حزب النهضة، على الرغم من النقاش الطويل الذى خاضته مع أخيها الذى كان يرافقها فى رحلة التصويت، حيث كان أخوها من الرافضين بشدة للتصويت لحزب النهضة، وظل يردد وهو يقف فى الطابور هتاف «خبز وماء والنهضة لا»، فهو يرى أن النهضة حزب سياسى يستخدم عباءة الدين للوصول إلى السلطة. أما شقيقته مريم فتصر على إعطاء صوتها لحزب النهضة، أما أسبابها فى ذلك الاختيار، بل والتمسك به بشدة، فهو ليس ما قرأته عن توجهات الحزب أو أفكاره أو برنامجه الانتخابى، بل إن أسبابها تتلخص فى ما قرأته وسمعته من أصدقائها على موقع «فيسبوك» بأن التصويت لغير حزب النهضة فيه ما يغضب الله! تقول مريم «منذ أن نشأنا لم نعرف حزبا سياسيا يمكن وصفه بالقوى فى مواجهة حزب التجمع الحاكم سوى حزب النهضة، ولكن عندما حاولت البحث عن أحزاب أخرى كى أختار لمن سأصوت منها، وجدت كثيرا من النقاشات على موقع «فيسبوك» تقول إن التصويت لغير حزب النهضة سيغضب الله». وبمزيد من التجول داخل اللجان الانتخابية ستكتشف أن كثيرا من التونسيين لا يعرفون من بين ال111 حزبا هى عدد الأحزاب المشاركة سوى 4 أحزاب، هى فى الغالب الحزب الديمقراطى التقدمى بقيادة نجيب الشابى، وحزب القطب الحداثى الديمقراطى برئاسة أحمد إبراهيم الذى رشح نفسه أمام بن على فى آخر انتخابات رئاسية فى 2009، وحزب التكتل الديمقراطى من أجل العمل والحريات، وحزب النهضة الإسلامى بزعامة راشد الغنوشى، وهو الحزب الأكثر شهرة، خصوصا بين سكان المناطق الفقيرة والأقل تعليما فى تونس. وفى الطوابير، ستجد أن سياق الحديث بين الناخبين يسير فى اتجاه أن جميع الأحزاب لا تختلف عن بعضها، فالجميع تقريبا يتحدث عن تلك الأهداف المطاطة التى تعتمد على الشعارات أكثر من البرامج الواضحة، التى تحمل رؤية وتخطيطا لمرحلة ما بعد الثورة. وفى الوقت الذى اقتربت فيه نسبة المشاركة من 80% قبل نحو ساعتين من إغلاق مراكز التصويت، بحسب تقديرات الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، كان يوم الانتخابات قد مر على التونسيين بفرح وسعادة، فخرجت السيارات فى الشوارع حاملة الأعلام التونسية، بينما يؤمن أفراد من الجيش مراكز التصويت، دون أى وجود عسكرى داخل اللجان. وبالهدوء نفسه الذى مر به اليوم التاريخى الذى يفصل بين عهدين، كما وصفه رئيس الحكومة الانتقالية الباجى قائد السبسى بعد الإدلاء بصوته، تحدث محمد الصغير، وهو مراقب أو «ملاحظ» كما يسميه التونسيون، من الحزب الليبرالى المغاربى إلى «التحرير» من داخل اللجنة التى يراقب سير العملية الانتخابية بها قائلا «مر اليوم فى معظمه بهدوء، ولم تشهد اللجنة التى أراقب بها أى تجاوزات سواء بالتأثير فى الناخبين أو وجود شبهة تزوير». ولكن فى إحدى اللجان الأخرى، عبر عدد من المراقبين داخل اللجان عن انزعاجهم واستيائهم من عدم التزام بعض الأحزاب بانتهاء الحملة الانتخابية، حيث ظهرت بعض التجاوزات الخاصة بمحاولات التأثير فى الناخبين وتوجيههم للتصويت لحزب بعينه، بينما قام حزب النهضة بتوزيع زجاجات مياه تحمل اسم الحزب. وبينما دعا أكثر من سبعة ملايين ناخب لاختيار 217 عضوا فى مجلس وطنى تأسيسى تتمثل مهمته فى وضع دستور جديد ل«الجمهورية الثانية» فى تاريخ تونس، يحل محل دستور 1959، وأيضا تولى التشريع وتقرير السلطات التنفيذية خلال المرحلة الانتقالية الثانية التى تلى الانتخابات، لحين تنظيم انتخابات جديدة فى ضوء الدستور الجديد، وجد نحو 4 آلاف ناخب ممن سجلوا أسماءهم فى اللجان الانتخابية أنه لم يتم إدراج أسمائهم فى السجل الانتخابى، وهى المشكلة التى اعترف بها كمال الجندوبى رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. كذلك لم يستطع عدد من التونسيين المشاركة فى التصويت لعدم حملهم بطاقات شخصية، وشهدت عدة لجان مشادات بسبب وقوف الناخبين لساعات طويلة انتظارا للوصول إلى الصندوق ليكتشوا بعدها عدم السماح لهم بالانتخاب، إما لأن هويتهم الشخصية منتهية الصلاحية أو مفقودة، فى الوقت الذى يمنع فيه القانون الانتخابى التصويت بجواز السفر كإثبات شخصية.