المشهد الذى رأيناه أول أمس فى الانتخابات التونسية كان مشهداً حضارياً بكل المقاييس فالشعب التونسى خرج بصورة غير مسبوقة فى تاريخه الانتخابي حيث وصلت نسبة التصويت من 80 إلى 90 % كما لم تسجل أى حالات شغب تذكر أثناء سير عملية التصويت . البلد الذى انطلقت منه شرارة " الربيع العربى " أعطانا درساً فى الديمقراطية واحترامها فالرجال والنساء اصطفوا منذ الصباح الباكر قبل افتتاح لجان التصويت أبوابها وحرص كثيرون على اصطحاب الأطفال حتى يروا ويشاهدوا هذا العرس البديع الذى لم يكن هبة من حاكم متجبر يمن بها على شعبه فيما بعد ولكنه كان نزعاً انتزعه الشعب بدماء أبنائه وتضحيات شبابه . تذكر الجميع الشاب التونسى محمد البوعزيزى ابن مدينة سيدى بوزيد الذى أقدم بعفوية وفى لحظة انكسار غير عادية ويأس أحاطت به على حرق نفسه فاشتعلت الثورة فى أرجاء تونس كلها ومنها إلى بقية البلدان العربية فكان لزاماً على الجميع أن يتذكره فقبل ذلك لم يكن المواطن العربى ذا أهمية تذكر لدى حكامه حتى إن كثيرين راهنوا على وفاة الشعوب العربية وكان السؤال الذى طرحه نزار قبانى منذ سنوات " متى يعلنون وفاة العرب " هى الذى يلح دائماً على الأذهان مع تجدد الحوادث والملمات التى أحاطت بالوطن العربى . مشهد العرس التونسى كان محملاً بمضامين عدة من أهمها أن الشعوب العربية ليست أقل من نظيرتها فى الغرب من حيث امتلاك الحق فى الاختيار والمساءلة وأنها ليست فاقدة الأهلية حتى يجثم على صدرها أقليات ديكتاتورية مسخت شخصيتها وأضاعت ثروتها . وأن استرداد هذا الحق الأصيل هو البداية الحقيقية لعودة نهضتها المرتقبة . ولكن الإعلام عندنا – واتساقاً مع أدائه السىء المنحاز – لم ير من هذا المشهد الرائع إلا تهجم بعض الشباب بألفاظ نابية على الشيخ / راشد الغنوشى أثناء إدلائه بصوته فى إحدى اللجان وعلى الفور كان الخبر الذى يتصدر شرط الأخبار فى قنواتنا الإخبارية " الناخبون التونسيون يطالبون الغنوشى بالرحيل من البلاد " وظل الخبر متصدراً لشريط الأخبار حتى يوصل رسالة للمتلقى مفادها أن الشعب التونسى لا يريد الغنوشى ولا حزب النهضة مع أن التسريبات تشير إلى تصدر حزب النهضة قائمة السباق !! والحادث فى مجمله لا يعدو كونه بعض الألفاظ من جانب بعض الشباب المعادى لحزب النهضة وتوجهه الإسلامى ولا يقارن بما تعرض له د./ البرادعى من محاولة الاعتداء عليه أثناء الإدلاء بصوته أمام إحدى لجان التصويت فى الاستفتاء الماضى . وقد شاهدت الشيخ راشد الغنوشى بعد الإدلاء بصوته وهو يدلى بأحاديث تليفزيونية وكان الرجل فى هدوئه المعتاد مما يدل على تفاهة الواقعة التى أراد إعلامنا تضخيمها بأى طريقة . جريدة أخرى قومية وضعت خبراً بارزاً على موقعها الالكترونى اختارت له العنوان الآتى " حزب المؤتمر من أجل الجمهورية يحتل المركز الثانى فى سباق الانتخابات التونسية " دون أن تكلف نفسها عناء الإشارة إلى اسم الحزب المتصدر وكأن القارىء يبحث عن صاحب المركز الثانى وليس الفائز فى الانتخابات !! أعلم أن نتيجة الانتخابات تثير فزعاً للكثيرين لدينا لأنها قد تكون مؤشراً على الانتخابات البرلمانية القادمة فى مصر. فتونس حاولت بكل السبل السلطوية والقمعية تثبيت أركان العلمانية فى البلاد ومارست القمع لعقود طويلة من أجل علمنة المجتمع التونسى وسنت من القوانين ما يخالف الشريعة الإسلامية مخالفة صريحة . ولكن يوم أن ارتفع الغطاء القمعى وترك لشعب حرية الاختيار يبدو أنه قد انحاز إلى المشروع المنسجم والمتناغم مع عقيدته وثوابته وفطرته التى فطره الله عليها . كل التهنئة القلبية للشعب التونسى الشقيق على هذه الرسالة الحضارية التى أتحفونا بها . ولا عزاء لعواجيز الفرح عندنا . [email protected]