الدفعة الثالثة على أبواب التخرج.. أحدثكم عن استوديو مسرح مركز الإبداع الذى يشعله حماسا ووهجا المخرج خالد جلال.. أصبح هذا المسرح إحدى نوافذ الحرية فى بلادنا التى نطل من شرفتها على مصر الحقيقية، مصر الخصبة الولادة التى لا تكف عن طرح قيم الحق والخير والجمال، فى وقت تمتد فيه يد العتمة تسعى إلى السيطرة على حياتنا لتغتال أى بصيص للنور. أن تعمل وتبدع فنا ذلك هو التحدى الحقيقى، خصوصا لو كان هذا الإبداع مقيدا بدولة تختار الولاء قبل الموهبة، ولكن خالد جلال واجه كل ذلك وقبل نحو خمس سنوات وهو يدفع بالموهوبين من داخل مسرح الدولة إلى منطقة إبداعه المحررة من أعداء الإبداع، وهم مع الأسف يشكلون الأغلبية فى مجتمعنا وينتشرون بكثرة وغزارة فى ربوع وزارة الثقافة، ولكن خالد قدم عروضه المتتالية منذ «هبوط اضطرارى» 2005، ثم «قهوة سادة» 2008، و«غنا الوطن» 2010، وأخيرا «حلو الكلام». يتكئ خالد فى المسرح على العمل بنظام الورشة، حيث تتلاقح الأفكار، الكل ينصهر داخل بوتقة الإبداع.. لم أحضر أيا من هذه الورش فى أثناء التدريبات، أشاهدها فقط مكتملة على خشبة المسرح، ولكنى أتخيل خالد وهو ينصت لهؤلاء الشباب، يصغى لتلك الفطرية والعفوية الجانحة، أكثر مما يتكلم ربما يضع فقط أفكار الإطار الفنى المناسب، ويؤقلم البعض ويشعل عديدا من الأفكار لكى تتواصل مع الخط الإبداعى العام، الذى يحدد الخيوط العريضة، ويحرص على أن يمنح هؤلاء الشباب كل المساحات ليملؤوها هم بالتفاصيل، الهدف هو فى نهاية الأمر أن يصبح الكل فى واحد.. إن هذا هو قانون الإبداع الفنى عندما تصبح الورشة فى لحظات الذروة هى البوتقة التى تنصهر وتنضج بداخلها الأفكار. ما الذى فعله هؤلاء المبدعون فى «حلو الكلام»؟ توجهوا إلى عصير مصر وخلاصتها الفكرية، إلى شعرائها الكبار ومن كل الأجيال ربما غلبت الرؤية العامية وأيضا الغنائية على تلك الأفكار التى تنقلك من ملمح شعرى إلى آخر.. «مصر يا امه يا بهية» لفؤاد نجم والشيخ إمام، إلى «بالأحضان» لصلاح جاهين وكمال الطويل، إلى مقطع من قصيدة جاهين «على اسم مصر»، إلى الأبنودى وبليغ حمدى «عدى النهار»، إلى فؤاد حداد إلى أمل دنقل وهو يعلن «لا تُصالح»، إلى جويدة، ونزار، ونجيب سرور.. مصر كانت حاضرة بقوة، مصر من ثورة يوليو 52 إلى مصر فى ثورة 25 يناير.. الأشعار الصادقة تعبر الزمن، ولهذا صارت أشعار هؤلاء الكبار علامات على زماننا، وفى نفس الوقت تخترق كل الأزمنة.. أليس «عم بطاطا» لجمال بخيت الذى «يزك الزكة يعبر سينا ويفتح عكة» لا يزال حيا يرزق بيننا وكأنه قد ولد منذ عهد الفراعنة ولا يزال يواصل الحياة؟ إنه المصرى الذى كان يستجير بالخيال ويرجو منحة من السماء تعينه على الحياة، إنه يملك مقياسه الزمنى الخاص مرور مئات السنين مجرد «شوية فكة»!! العرض قائم أيضا على روح الارتجال، الجمهور فى الصالة هو الذى يختار الأشعار التى يريدها من خلال ما أطلق عليه المخرج ساخرا «مشنة الكتب»، ويتم التتابع فى الاختيار من شاعر إلى آخر لا يربط بينهم سوى أنهم ينشدون حرية الوطن.. الممثلون الشباب على المسرح، ويبلغ عددهم 63، مدربون على هذا الانتقال العشوائى ويزرع خالد جلال بين المتفرجين ممثلين يتحدون تلك الأشعار، ولهذا يصبح الجدل طوال زمن المسرحية قائما بين الممثلين على المسرح والجمهور. ورشة خالد جلال بها عناصر تستحق الإشادة، مثل نجاة على أستاذة مادة الإلقاء، والإعداد الموسيقى لهيثم الخميسى، وديكور هشام قابيل. أعظم وأهم ما يثبته هذا العرض المسرحى أن جذوة الإبداع ممكنة وهؤلاء سبقتهم دفعتان انطلقتا من تلك المساحة الضيقة على المسرح إلى آفاق إبداعية أرحب فى السينما والدراما التليفزيونية والمسرح الخاص.. إنها ورشة إبداعية ترى فيها عبير مصر القادمة وعصير الإبداع المصرى، وكما قال أحمد فؤاد نجم «دولا خلاصة مصر يا ولدى.. دولا عيون المصريين».