في طفولتي كنت أخشى الجنازات، خاصة تلك التي كانت تقام ليلا، كانت مناظر الكشافات والأعين اللامعة رسل خوف لطفل صغير، كانت أصوات فتح النعوش، تترك في نفسي هلعا خاصا، تزامن الرعب مع ظاهرة الموت الغامض، للمصريين العائدين من العراق، نهاية الثمانينيات، ضحايا القتل الصامت لجنود عادوا من الجبهة فوجدوا المصريين مكانهم، أو جراء صواريخ المدن العراقية الإيرانية. في طفولتي كنت أخشى الجنازات، خاصة تلك التي كانت تقام ليلا، كانت مناظر الكشافات والأعين اللامعة رسل خوف لطفل صغير، كانت أصوات فتح النعوش، تترك في نفسي هلعا خاصا، تزامن الرعب مع ظاهرة الموت الغامض، للمصريين العائدين من العراق، نهاية الثمانينيات، ضحايا القتل الصامت لجنود عادوا من الجبهة فوجدوا المصريين مكانهم، أو جراء صواريخ المدن العراقية الإيرانية. ذات مرة اضطررت للاختباء تحت بطاطين قاسية في حر يوليو، كي لا يطاردني الموت، وقد كنت قريبا منه قبل قليل.كنت أحتفظ برواسب الموت الليلي متراكمة على هيئة شفقة تجاه أبناء الفقيد أو أشقائه، فهذا "اليتيم مات أبوه ليلا"، وذاك "لم يسلم على والده ولم ير سوى كفنه الأبيض أمام القبر".ذات مرة اقتربت أكثر في بيت جدي ذات مرة اضطررت للاختباء تحت بطاطين قاسية في حر يوليو، كي لا يطاردني الموت، وقد كنت قريبا منه قبل قليل. كنت أحتفظ برواسب الموت الليلي متراكمة على هيئة شفقة تجاه أبناء الفقيد أو أشقائه، فهذا "اليتيم مات أبوه ليلا"، وذاك "لم يسلم على والده ولم ير سوى كفنه الأبيض أمام القبر". ذات مرة اقتربت أكثر في بيت جدي حيث يرقد شقيقه ميتا مغطى الوجه، لكن ظفر قدمه كان ظاهرا لعيني كطفل دون العاشرة، ظل هذا الظفر المتعلق بالحياة يطاردني لأشهر. في بداية عملي سكنت بمساكن ضباط بالقرب من مقابر قبطية بمدينة نصر، دون أن أدري، كانت شرفتي وحدها تطل عليها آلاف القبور ، تعتليها تماثيل جميلة للعذراء، تتحول للناظر في ظلام الليل إلى ما يشبه الأشباح، كنت أتابع الجنازات يوميا، وأتماهى مع أبطالها ومآسيهم، فهذا شاب صغير يظهر أبوه منفطرا على رحيله المبكر علي، وهذه أم ثكلى، تتماسك حتى ينخفص صليب الورد من أيدي المشيعين ويستعدون لترك الجثمان والانصراف بعيدا. ضبطت نفسي مهتما بتفاصيل غريبة؛ ذهبت لأسأل صديقي رأفت بسطا عن مصير التوابيت التي يتركها المشيعون في القبور، قال لي إن التوابيت تجمع بعد فترة، وكذلك بقايا العظام في معظمة خاصة. دفعني التماهي مع الموت إلى مدينة الموتى، كنت أراقب الشواهد، و أتخيل أصحابها، "مقابر الشهداء الأتراك" من جاؤوا إلى مصر للحرب ثم أطلقوا زفرتهم الأخيرة دون أن يودعوا بنيهم. رحلت بعيدا بشغف خاص تجاه الموتى الغرباء، وتجاه من ألهاه التكاثر حتى زار المقابر لاجئا ومقيما. (2) في العلمين قابلتني هذه اللوحة، على مقابر الطليان في الحرب العالمية الثانية": "كرِس لمثوى أربعة آلاف وستمئة جندي وبحار إيطالي، الصحراء والبحر لا يعيدان الثمانية والثلاثين ألفا المفقودين"، تأملت أشياء المفقودين والموتى؛ عملات معدنية لا تشتري شيئا في الصحراء، صلبانا وكتبا مقدسة، كانت تبحث عن طمأنينة ما قبل القتال، رسائل غرام لم تقرأها الحبيبات، مسدسات وقوارير وشفرات حلاقة، أدوات الحياة والموت. في متحف العلمين ظهرت "كوفية" روميل و"نياشينه" ونظاراته أدوات العظمة التي لم تشفع للثعلب وتنصره، سوى صيحات إعجاب بمن يتتبع سيرة القائد المهزوم، دراجات قتال ألمانية لا يزال هواؤها يبحث عن المجد منذ عقود طويلة. في مقابر الكومنولث حملت الشواهد أسماء "أحمد وديفيد وخان" تجاور الجميع في صحراء حارقة بأديانهم المختلفة، وبمحبة خاصة صهرتها الحرب. لخصت جدارية قريبة على الضفة الأخرى من الحرب مأساة الجميع، فكتب الألمان: "هنا يرقد واحد وثلاثون جنديا مجهول النسب كل شيء هنا سلبه الموت: الاسم والجنسية والعمر سلب كل القيم الدنيوية: جردها من كل معنى بقيتم كنقطة بيضاء في الملحمة السوداء حين تقفون هنا في المعركة سواء: عم أو صديق أو أخ "أبناء ألمانيا أو إيطاليا أم إنجلترا كنتم ذا فروسية، أما القانون فمن وضع الإنسان الله وحده يعرفكم جميعا، يعلن أسماءكم يرتبها في نظامه الحق بيده رجاء الأحياء والأموات"