لا أدري لماذا أتذكر عبد الناصر هذه الأيام، ربما لأنه من الزعماء القلائل الذين أثروا فينا كثيرا، وظلت ذكراه تلاحقنا حتى بعد أن رحل، لم يكن بحاجة لتزوير الانتخابات رغم أن أجهزته كانت تزورها، كان يفوز بنسبة هائلة، 99%، رغم أنه كان المرشح الأوحد، ما زال هذا الأمر ساريا مع إضافة بعض المرشحين الكومبارس، ورثنا منه كل الأخطاء، أما الإنجازات فقد قضينا عليها، عشنا معه أجمل أوهام النصر، وذقنا معه مرارة الهزيمة. لا أدري لماذا أتذكر عبد الناصر هذه الأيام، ربما لأنه من الزعماء القلائل الذين أثروا فينا كثيرا، وظلت ذكراه تلاحقنا حتى بعد أن رحل، لم يكن بحاجة لتزوير الانتخابات رغم أن أجهزته كانت تزورها، كان يفوز بنسبة هائلة، 99%، رغم أنه كان المرشح الأوحد، ما زال هذا الأمر ساريا مع إضافة بعض المرشحين الكومبارس، ورثنا منه كل الأخطاء، أما الإنجازات فقد قضينا عليها، عشنا معه أجمل أوهام النصر، وذقنا معه مرارة الهزيمة. رأيت عبد الناصر في حياتي مرتين، كنت صغيرا في المرة الأولى عندما جاء إلى مدينتنا "المحلة الكبرى" للمرة الأولى والأخيرة، كنت طفلا صغيرا أقف وسط آلاف من المصريين المشدوهين، المتشوقين لرؤيته، ضمن الحناجر التي تهتف دون وعي، كانت المناسبة هي الاحتفال بعيد العمال، وكانت مدينتنا العجوز قد تزينت بقدر استطاعتها رأيت عبد الناصر في حياتي مرتين، كنت صغيرا في المرة الأولى عندما جاء إلى مدينتنا "المحلة الكبرى" للمرة الأولى والأخيرة، كنت طفلا صغيرا أقف وسط آلاف من المصريين المشدوهين، المتشوقين لرؤيته، ضمن الحناجر التي تهتف دون وعي، كانت المناسبة هي الاحتفال بعيد العمال، وكانت مدينتنا العجوز قد تزينت بقدر استطاعتها وامتلأت الشوارع باللافتات وأشكال التروس المصنوعة من الخشب. كنا وقتها نعيش في الأناشيد أكثر مما نعيش في الواقع، احتشدنا على الأرصفة منذ الصباح المبكر، ووزعت علينا المدرسة زيا مخصوصا بالمجان حتى لا نبدو أمامه بثيابنا الفقيرة، وكأنه كان يرانا حقا؟! أصبحت الشمس حامية دون أن نتحرك من أماكننا، تأخر موكبه فلم نتذمر، كنا نعرف أنه سيقابلنا تحت نفس الشمس وأن ابتسامته ستزداد اتساعا عندما يرى حشدنا، وعندما ظهرت سيارته أخيرا، واقفا في سيارته المكشوفة، قامته عالية وكتفاه عريضتان، عمود فرعوني متوج باللوتس، يلوح بيده فنشعر جميعا بالنشوة، نهتف له في تبتل، كان في لحظة مجده، وجهه منير، يمضي من نصر إلى نصر كما يرددون في الإذاعة والصحف، لم نكن نعرف بالضبط نوع المعارك التي يخوضها، ولكن كنا واثقين أنه سيخرج منتصرا، وهذا ما كان يهمنا. وبعد أن انتهى استقباله الحاشد أخذ أهل المدينة يعودون بسرعة إلى ستاد كرة القدم، تجمعنا حوله، حيث بدأ يلقي خطابه علينا لأكثر من ساعتين، وكان يردد كثيرا الكلمتين المحببتين إليه "العزة والكرامة" ويهاجم "الرجعية والاستعمار"، كان يقف راسخا مثل شجرة من المستحيل اقتلاعها وهو يعدنا بمسيرة طويلة من الكفاح وكنا واثقين أنه سوف يكملها، كانت رؤيته أشبه بحلم لم أستطع أبدًا أن أنساه. ولكن الأمر كان أشبه بالكابوس حين رأيته للمرة الثانية، كنت قد كبرت في السن، أعوام مرت علينا كأنها دهور طويلة، انطفأت مشاعل الثورة وأصبح طعم الأيام مرًّا كالعلقم، كنت في القاهرة، في ميدان التحرير، لم تكن هناك سيارات، ورجال الشرطة ينظمون صفوف الناس وكانوا قليلين على أي حال، لا يمكن مقارنتها بالحشود التي كانت تقف في انتظاره، لم تكن هناك زينة خاصة ولا بقية من هالات المجد، وعبد الناصر يركب في سيارة مكشوفة في طريقه إلى مجلس الأمة، بجانبه يجلس شاب نحيف وعصبي في بزته العسكرية، كان هذا هو العقيد معمر القذافي في أيامه الأولى بعد أن قفز إلى السلطة. ولا بد أن وجوده كان السبب المباشر في ركوب عبد الناصر في سيارة مكشوفة، فمنذ أن تم اغتيال كنيدي في منتصف الستينيات وقد كف الرؤساء في كل أنحاء العالم عن ركوب السيارات المكشوفة، وأصبح الخطر في مصر مضاعفا بعد هزيمة يونيو، ولكنه تحمل المخاطرة من أجل أن يظهر هذا الزعيم الشاب أمام الجماهير. تغير الزمن حقا، ولكن ليس كالتغير الذي حدث للزعيم، كان لا يزال في بداية الخمسينيات من عمره، ولكنه بدا طاعنا في السن إلى حد الكهولة، الشيب يبدو واضحا في فوديه، لم يكن يهتم بصباغة شعره مثل حسني مبارك، وكان وزنه قد زاد وأصبح كرشه بارزا للأمام، بدا بالغ الضخامة بالنسبة للعقيد البالغ النحافة، وكان يرد على تحية الجماهير بملل وعدم اكتراث، وكانوا هم أيضا يحيونه وقلوبهم مفطورة من الحزن، ضاع الشغف وفتر الحماس، كنا قد تلقينا أسوأ هزيمة في تاريخنا المعاصر. تقلصت خريطة مصر الواسعة التي ورثها عندما تولى الحكم، انفصل عنا السودان الذي كان عمقا استراتيجيا وأملا في توفر الغذاء ومواجهة الجوع، لم نستطع أن نبقي الرباط الذي يجمعنا بالإخوة السودانيين متواصلا، ولم نستطع أن نحافظ على غزة الفلسطينية التي كانت أمانة عندنا، وأضاعنا سيناء، خمس الوطن، بما فيها من نفط ومعادن وقبائل وتاريخ وآثار، لم يبق إلا خريطة خانقة، أصبح الزعيم الخالد رجلا عجوزا مهزوما لا يجديه التشبث بأيٍّ من أحلامه القديمة. ما بين هاتين الرؤيتين للزعيم ضاعت سنوات عمرنا، كانت كلماته قد شكلت طفولتنا وسنوات شبابنا، وكنا الجيل الوحيد في تاريخ مصر الذي جاء للعالم محملا بأحلام عظيمة، بشغف للوحدة والحرية ورغبة في تغير العالم وإحساس بالقدرة على مواجهته دون خشية، ودون إحساس بالنقص. كل الأجيال التي ولدت بعد ذلك كانت محبطة ومهزومة، وبعضهم ولدوا وهم عجائز، انطفأت أحلامنا الزاهية فجأة في عام 1967، اكتشفنا أننا نحن الجيل الذي تخيل أنه يواصل الصعود، بينما هو يقف مشلولا في مكانه، كان وعينا غائبا. لقد كتب توفيق الحكيم بعد وفاة عبد الناصر مباشرة كتابا صغيرا بعنوان "عودة الوعي"، تحدث فيه بهدوء وكياسة عن بعض أخطاء الزعيم الراحل، ساعتها لم يلتفت أحد إلى مضمون الكتاب بقدر ما تركز الهجوم على شخص توفيق الحكيم نفسه، اتهموه بالجبن والنفاق ومحاولة تشويه الزعيم الخالد، لم يكن الوعي قد عاد لنا بعد، أو بالأحرى كنا لا نريد ذلك، نحن الشعب الوحيد في العالم الذي نغيب وعينا بإرادتنا، نغض البصر عن الأخطاء ونمررها ونبلعها. مرت علينا أيام السادات وحسني مبارك كما تمر الكوابيس، ظللنا بنفس درجة الشلل حتى رأينا أولادنا وهم يتحركون في يناير عام 2011، لكنهم لم يواصلوا الحركة إلى نهايتها عشنا معهم لحظة نادرة من يقظة الوعي بعد قيام الثورة، ولكنها كانت قصيرة، كنا نتابع نظاما يرحل بكل أخطائه وجرائمه، ولم نتوقف طويلا عندما لم تتم محاسبته، ولم ننتبه أيضا عندما تكررت الأخطاء نفسها، وهذه هي المشكلة الأزلية التي تعاني منها مصر، مشكلة الثورات الناقصة.