أول من أمس مرت الذكرى ال41 على رحيل جمال عبد الناصر، وأطل مع ذكراه نفس السؤال: لماذا كانت حدود الوطن فى زمن عبد الناصر تساوى عبد الناصر؟ هل كان الحب أم أنه الخوف؟ هل صدّق الفنانون الثورة والمنجزات التى ارتبطت بها أم أنهم كانوا مجبرين على التغنى بها؟! قبل أن أجيبكم أتذكر ما قاله لى الإذاعى الكبير الراحل جلال معوض الذى هو صوت عبد الناصر لأنه كان دائما وفى عز سيطرة الإذاعة على عقول ووجدان الناس هو مذيع مصر الرسمى الأول. قال لى جلال إن عبد الناصر كان يضج من كثرة الأناشيد التى تتغنى باسمه ولهذا فى أحد الاحتفالات الوطنية لا أتذكر تحديدا إذا كانت السد العالى أم الثورة كانت التنبيهات التى تلقاها معوض من عبد الناصر شخصيا صارمة وهى أن يطلب من الجميع باعتباره مسؤولا عن حفلات أضواء المدينة أن لا يذكروا اسمه. التزمت نجاة ومحرم فؤاد وشادية ثم -وآه مِن ثم- جاء دور المطرب الكبير محمد الكحلاوى الذى كان كعادته يردد عددا من أغانيه الدينية والبدوية، وفجأة غيّر فى الكلمات وأضاف اسم عبد الناصر... ومن بعدها فقد جلال معوض السيطرة على الحفل وانطلق الجميع مرددين اسم الزعيم! لا أتشكك بالتأكيد فى رواية الأستاذ جلال ولكنى فقط أتوقف أمام رغبة الزعيم فى الغناء باسمه.. لا أتصور أن عبد الناصر كانت لديه اعتراضات، بل كان سعيدا بما يجرى، وجاءت ذكرى رحيله لأستعيد عددا من أغانيه عبر الإذاعة والتليفزيون، ووجدت نفسى أستمع إلى أم كلثوم وهى تغنى على مدى ساعة كاملة «حققنا الآمال.. برياستك يا جمال.. بعد الصبر ما طال».. وتعيد وتزيد فى هذه الكلمات الركيكة عشرات المرات، ونكتشف أن الذى كتبها هو زجال مصر الأول بيرم التونسى، والذى لحنها هو عملاق الموسيقى الشرقية رياض السنباطى، فما الشاعرية فى «حققنا الآمال.. برياستك يا جمال»؟ أو عندما يقول عبد الفتاح مصطفى -وهو أحد كبار شعراء الأغنية- «الزعيم والثورة وفّوا بالعهود.. لسه دور الشعب يوفى بالوعود».. إنه يبرئ ساحة رجل واحد ويدين شعبا بأكمله.. بالتأكيد ليست كل الأغنيات التى ردد فيها الشعراء اسم عبد الناصر كانت مجرد هراء وخوف من السلطة.. لا يمكن أن أصدق مثلا أن أغنيات عبد الحليم «إحنا الشعب إحنا الشعب.. اخترناك من قلب الشعب» لصلاح جاهين وكمال الطويل، ولا أن أغنية «يا جمال يا حبيب الملايين» لإسماعيل الحبروك والطويل، ولا أحمد شفيق كامل وهو يقول «ضربة كانت من معلّم خلى الاستعمار يسلّم»... لا أصدق أنهم كانوا يكذبون.. لدينا بالتأكيد أغنيات عبّرت بصدق عن المشاعر الوطنية الجياشة ولم تكن تحت تأثير الخوف من عبد الناصر، ولكن لو عدت إلى أرشيف الإذاعة سوف تكتشف أن البعض كان يبدأ كتابة اسم ناصر أو جمال والبحث عن أى وزن وقافية ويملؤها بمجرد كلمات.. الأهم أن الرئيس نفسه لم يعترض على هذا الإسراف، ربما فى لحظة قال كفاية حدث هذا مرة مثلا، ولكن الرئيس أسعدته هذه الأغانى التى تعنى أن الكل يذوب فى واحد! عندما سألت الموسيقار الكبير كمال الطويل -وهو على الأقل صاحب 90% مما ردده عبد الحليم حافظ من أغنيات وطنية واكبت الثورة- أجابنى بأنه لم يشعر ولو للحظة واحدة أنه يلحن لجمال عبد الناصر ولكن للوطن.. انتهت كلمات الطويل إلا أننى أضيف أن هناك من غنى بقناعة وهناك من غنى لمسايرة الزفة، وما تبقى فقط هو تلك الأغنيات التى قُدمت بإحساس، وبالتأكيد تحتل أغنيات الطويل وجاهين وحليم النصيب الأكبر من الأغانى الصادقة.. وكما أن أكبر خطيئة ارتكبها الضباط الأحرار هى تعطيل المبدأ السادس للثورة بإقامة حياة ديمقراطية هو الذى دفعنا ثمنه ولا نزال، فإن هذه الأغنيات التى ربطت بين حدود الوطن وشخص الرئيس هى التى سيطرت على المشهد الغنائى، وتذكروا محمد العزبى وهو يغنى للرئيس المخلوع قبل 15 عاما «اخترناه اخترناه واحنا معاه لما شاء الله»، والغريب أن النظام لم يتغير، بالطبع لن يُسمح لأحد الآن بأن يغنى للمشير طنطاوى إلا أن من قال إن النفاق فقط بالغناء!