في منتصف الليل في ليلة صيف لزجة، لا نسمة هواء ترطب الجسد المنهك، وبعد يوم عمل مضنٍ في مصنع المحلة للغزل، ارتكن بظهره إلى الحائط، وجهه محتقن من الاكتئاب، الدموع محتبسة لا تريد الخروج للتفريغ عن تلك النفس المنهكة، أغلق تليفونه الرديء فهو عاجز عن الرد على التليفون، فاللسان متلعثم والعزيمة والإرادة في أسوأ حالاتها، فقد عجز عن السلف لإكمال الشهر، بعد أن أوصدت أمامه الأبواب وتم تجاهل الرد على تليفوناته، لأنه ليس أول شهر يستلف لإكمال الشهر ولم يسدد ما عليه من ديون، والأصدقاء الحميمون كاهلهم مثقل والكل يعاني، ولا مجال للتكافل في هذه اللحظات الحرجة، خاصة أنهم تحملوه كثيرًا في الفترات الماضية، ولكن الزمن غير الزمن، والمعاناة شملت الجميع، والقلق والتوتر أصبح السمة الغالبة، والكل لجأ للبنوك لودائع بقيم فوائد عالية تحسبا للزمن وللحوجة والعوز. أخرج علبة سجائره من جيبه فوجدها فارغة، هو يعلم أنها فارغة ولا يدري لماذا لم يلقها في الشارع بعد أن سحب آخر سيجارة منذ نصف ساعة، هل لمجرد طمأنة نفسه أن جيبه ما زال فيه سجائر، ضغط عليها بعنف وألقاها غاضبا. هو لا يجد ثمن علبة السجائر في جيبه ولا يجد ما يذهب به إلى البيت لشراء لوازم العشاء، بعد أن تبددت آماله في الاقتراض ولا يجرؤ على الذهاب للبيت وهو خاوي الوفاض. تذكر الأيام الخوالي في المصنع، حيث كان يتقاضى راتبا وحوافز كافية لمعيشته معيشة جيدة، ومع الوقت استطاع بناء علاقات قوية مع تجار ملابس وأقمشة في الأقاليم المجاورة، وكان يجلب لهم بعض البضائع، وكان مستشارا لهم مع الوقت في شراء الملابس المستوردة، فقد كان عمله كفني إنتاج له خبرة قوية في التعرف على جودة الأقمشة ونسبة القطن أو الصوف إلى البوليستر في القماشة بمجرد لمسة متفحصة، وكان وقتها يلبس أفخم الملابس هو وأولاده، ولا يمر صيف بدون الذهاب إلى رأس البر أو جمصة وبعد ذلك إلى الإسكندرية، لا يمر شهر إلا وهو ذاهب بأولاده للقاهرة لزيارة أولياء الله الصالحين والعشاء في أفخم مطاعم الحسين والأزهر والسيدة زينب. لم يكن يحسب لهذا اليوم حسابا، كانوا يطلقون عليه العايق في العائلة والحي، كان يظن أن وضعه في المصنع يتحسن يوما بعد يوم وأن الأوضاع تسير للأفضل، لم يكن يتخيل أن الرواتب رغم زيادتها لن تكفي الحد الأدنى من المعيشة الكريمة، كريمته الكبرى مخطوبة، ورغم أن أمها ادخرت العديد من لوازم العروسة منذ زمن من أطقم وسجاد وخلافه، ولكن ما زال لديه التزامات كبيرة بخصوص الأجهزة الكهربائية التي ارتفعت أسعارها بشكل مضطرد، نظر إلى البنطلون البالي الذي يرتديه بحسرة، وقد تعددت فيه الثقوب التي تم رتقها بدائرة تسمى الرفة، والفانلة المانتجوا التي كانت ذات قيمة في الثمانينيات من القرن الماضي وقد استدعاها من السحارة بعد أن تجاهلها كثيرا، بعد أن تهالكت ملابسه ولم يعد قادرًا على شراء الجديد ويفضل متطلبات أولاده الشباب على نفسه، تذكر ابنه الكبير وهو الثاني بعد ابنته البكر المخطوبة، الذي فضَّل دخول الدبلوم رغم تفوقه الدراسي ليساعد والده في متطلبات المعيشة وتخلى عن طموحه الدراسي. كل هذا يمر أمام رأسه وبدأ منتصف الليل في القدوم سريعا، واختفت الأرجل من الشارع وتراجعت حركة السيارات، ولا يسمع إلا خبطات الزهر في جدار الطاولة من القهوة البعيدة، التي كان يجلس عليها أحيانا، ولكنه الآن مرتكن إلى الحائط، لأنه لا يملك ثمن كوب الشاي، يجلس عليها الصنايعية وبعض العاطلين من خريجي الجامعات. سار إلى المنزل بخطوات متباطئة ومنكسرة وحزينة، عله يجد كل من في البيت نياما، أدخل مفتاحه إلى طبلة الشقة، وجد أم أحمد تسارع لتفتح له الباب، وجد أبناءه وقد تحلقوا حول ترابيزة عتيقة، وأمامهم ما لذ وطاب من الكفتة واللحمة المشوية، وهم ينادونه مسرعين بأن ينضم إليهم، ولكن وجهه العابس لم تنقشع غمامته، وقالت له أم أحمد: الحمام جاهز يا خويا غير هدومك الأول، قلت للولاد استنوا أبوكو، بس هما كانوا جاعوا، بس أنا مستنياك عشان اتعشى معاك وشايلين منابنا. تقدم إلى حجرته بخطوات منهكة، وكانت نظراته لأم أحمد مستفسرة، وبعد أن دخل إلى باب الغرفة وأغلقها أجابته بسرعة، وقالت الواد أحمد إنت عارف شغال مع أستاذ كمال المحامي، وليهم شغل في السمسرة، بقاله شهر شغال على قطعة أرض بين المشتري والبائع ليقرب وجهات النظر، وقد وعده أستاذ كمال بنسبة من السمسرة وقد تمت اليوم بحمد الله، وكان نصيبه عشر تلاف جنيه، جاب العشوة الحلوة دي وقالها الباقي يا ماما كملي شوار مها، وربنا يبعت ويرزق. لم تنفرج أساريره، دخل إلى الحمام ليأخذ دشا دافئا يزيل به عرق اليوم وإنهاكه، وجاءت له أم أحمد بالعشاء ولكنه رفض وقال أنا مرهق وحانام، ارتكن إلى السرير، فوجد علبة سجائر مغلقة على الترابيزة المرتكنة إلى سريره فتحها ليخرج سيجارة، ولكنه أعادها مرة أخرى واستسلم للنوم، أغلقت أم أحمد النور وخرجت لتجلس مع أبنائها في الصالة أمام التليفزيون، وفي الفجر كانت الصرخات تعم أجواء البيت، فقد استسلمت روحه وصعدت إلى بارئها، وتركت الجسد ليذهب لمقره الأخير. إنه الانكسار؟!