بعد مرور عشرين عامًا على بداية المراجعات الفكرية في مصر على يد الجماعة الإسلامية بقيادة كرم زهدي وناجح إبراهيم وعاصم عبد الماجد وعصام دربالة، وغيرهم، وتحت رعاية النظام وقتها، أو على الأقل جهاز الأمن الداخلي، وبالخصوص قطاع أمن الدولة وقتها، وكان من نتائجها خروج ما يزيد على العشرين ألفًا من شباب هذه الجماعة، الذين كان بقاؤهم داخل السجون تحت وطأة قانون الطوارئ، الذي طبق بداية من عصر مبارك حتى آخره. بعد هذه الفترة الطويلة من التجربة، يطرح السؤال نفسه، هل كانت تجربة ناجحة؟ والسؤال الثاني: هل هذه التجربة قابلة للاستنساخ مع الوضع الحالي؟ من وجهة نظري أن التجربة ناجحة، بل نجاح باهر، وهنا يطرح سؤال جانبي نفسه، هل كان هناك بديل؟ اعتقادي أنه لم يكن هناك بديل، وأن الوضع كان كارثيا، ومن الحتمي حلحلته، لأن نتائجه كانت كارثية. نحن نتحدث عن حالة عنف متبادل راح ضحيتها طبقا للأرقام التي نشرها مركز الأهرام الإستراتيجي وهو مركز حكومي، أرقام بالآلاف، وكانت النتيجة أقرب للتعادل، بمعنى أن الضحايا من الجماعة الإسلامية من جهة أو من أجهزة الدولة التنفيذية والشرطة بالأساس في هذا الوقت كانت أقرب إلى التساوي. الشرطة في حالة الهجوم على الكمائن أو مواجهة مسلحة لحالة القبض والتوقيف، أو حتى الهجوم على الاستراحات، أصيب بعضهم بحالة من العصبية والتوتر بسبب موت أصدقائهم وزملائهم، وامتد الأمر بالقبض بالشبهة، لم تكن الموبايلات وقتها موجودة، ولكن الموجود وقتها كانت نوتة التليفون، وكان إذا قبض على أحدهم، تم القبض على كل الأسماء الموجودة في نوتة التليفون، رغم أن الاسم ربما يكون مجرد سباك يصلح للشخص مسكنه، أو ربما كان المقبوض عليه تاجرا، وهذه أسماء وأرقام زبائنه من التجار الصغار، أو الموردين له، ولكن كان القبض بالشبهة والخضوع لظروف تحقيق قاسية حتى يتبين لهم الأمر، وكثيرا ما كانوا يشكون في أقوال المتهم ويأخذون بالأحوط ويتخذ بحقه أوامر اعتقال متلاحقة بالسنين، لأن العقوبة تكون للضابط الذي أفرج عن شخص تورط بعد ذلك في عمل إرهابي، ولم تكن هناك عقوبة مقابلة للقبض الخطأ، مما دفع إلى القبض بالشبهة والتخوف من الإفراج أخذًا بالأحوط. وهذه الحالة ما كانت لتستمر على هذا النحو، وقد اعترف لي أحد القادة الأمنيين وقتها، وقال لي كانت هناك ضغوط غربية كثيرة بخصوص حقوق الإنسان وحالة الطوارئ الممتدة، وخشينا أن يرضخ الرئيس مبارك في أي لحظة ويوقف قانون الطوارئ، ونكون وقتها في مواجهة عشرات الآلاف الغاضبين والثائرين والراغبين في الانتقام. خرج ما يربو على العشرين ألفًا في هذا التوقيت بالتتابع، ولم يخرج القادة إلا بعد ثورة يناير، لأن الذين خرجوا كانوا من المعتقلين وليس المحكومين، وإن كانت ظروف السجون تحسنت كثيرا لديهم. هل حصل ارتداد؟ ما حدث هي بعض حالات فردية لا تنفي نجاح التجربة، وهذا ناجح إبراهيم وكرم زهدي ما زالا يواجهان بكتاباتهما ومحاضراتهما الأفكار التكفيرية حتى الآن، وزعامتهما الفكرية حالت دون ارتداد الشباب في أزمة عام الإخوان وما تبعها، وكانوا أكثر الجماعات ابتعادا عن الفتنة في هذا الوقت العصيب. بالمناسبة هم لم يغيروا أفكارهم الرئيسية والمحورية الخاصة بالأممية وضرورة عودة الخلافة، وإقامة الدولة الإسلامية المزعومة وتطبيق ما يطلق عليه الشريعة الإسلامية، وعندما قدموا أطروحاتهم الفكرية، قدموها من خلال نفس المنظومة القديمة، ولكن باستدعاء أقوال أخرى تخص المواءمات والمصالح المرسلة، مثل موافقات الشاطبي أو اجتهادات الإمام الطوفي أو غيرها من الأفكار، من منطلق الحفاظ على النفس الإنسانية "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، والعودة إلى ما يسمى فقه الدعوة السرية. ورغم ذلك فهو إيجابي، حتى لو كان مجرد عودة من مربع العنف المادي إلى مربع العنف الفكري فقط، مع العلم أن الانتماء لتنظيم سري هو بداية العنف المادي، لأن التنظيم السري في حد ذاته هو استعداد لمرحلة المواجهة، عندما تضعف الدولة أو تقوى الجماعة، ولكن الحياة الفردية بأفكار غير منطقية فهو في النهاية لا يضر المجتمع في العموم، أو أنه ضرر محتمل، ولا يوجد قانون يحاكم على مجرد الأفكار، إلا القوانين النازية. نأتي للسؤال الأهم، هل التجربة قابلة للاستنساخ؟ في رأيي لا بديل، نحن نتحدث عن عدة ملايين بلا مبالغة، ربما التنظيميون لا يصلون إلى المليون في كل التنظيمات، ولكن المنتمين فكريا، والمتأثرين عاطفيا، والدوائر الاجتماعية والعائلية لهؤلاء هي دائرة أوسع بالطبع، وهناك ما يسمى الخروج الحتمي، فليس عشرات الآلاف الموجودون داخل السجون، كلهم في تهم كبيرة، تحتم بقاؤهم في السجون مددا طويلة، ولكن أغلبهم الأعم في تهم تظاهر أو حتى تهم عنف جزئي، حتى لو وصلت مدد حبسهم إلى 3 سنوات أو خمس سنوات، فقد مضت أربع سنوات منذ الثلاثين من يونيو، والكثيرون كانوا على ذمة تحقيق في قضايا، ولم تصل الدلائل ضدهم إلى حافة الأحكام، فالخروج إذا حتمي، فإما أن يخرج هؤلاء محملين بطاقات غضب وثأر، وإما أن نبحث في أمر المراجعات الفكرية مرة أخرى، وبطرق أكثر حداثة. والموجودون خارج السجون هم أضعاف مضاعفة لمن هم داخل السجون، ولا تتحمل أي دولة سجن مليون شخص أو حتى نصف هذا العدد، فلا طاقة السجون تسمح، ولا العبء المادي يسمح، ولا كلفة المواجهة محتملة في هذا الأمر، ناهيك بالضغوط الدولية التي تحاصر الدولة بتهم التجاوز في التحقيقات أو حتى التشكيك في عدالة القضاء ونزاهته، فمواجهة المجتمع الدولي في ظل ظروف اقتصادية وسياسية متردية له كلفته أيضا. فالمتَّبع في الغرب ما يسمى بمراكز إعادة التأهيل، وهذه المراكز لا يجب أن تكون خاضعة للأجهزة الأمنية، هي مراكز مجتمع مدني، تجمع الفرقاء، بمعنى أن يكون هناك أفراد من تيارات إسلامية مختلفة، وأفراد من تيارات سياسية أو اجتماعية أخرى، وتدار حلقات نقاشية مفتوحة، هدفها الأساسي هو خلخلة المطلقات، والبحث عن التقارب، وتقريب وجهات النظر، وهذا أمر سهل، فمن وجهة نظري أن الأفكار الراديكالية هشة، ومن السهل خلخلتها، إن نوقشت في جو مفتوح، ووجهت أسئلة جوهرية لهذه المشاريع السياسية، فمشروع الشريعة إن تمت مناقشته في جو مفتوح سيهتز، لأنه مفهوم هش للغاية، ولا مجال للدخول في التفاصيل فقد ناقشناها في مقالات أخرى، والمطلوب بالطبع ليس نجاحا 100%، بل أي نسبة نجاح هي مقبولة، بدلاً من ترك الأمور على عواهنها دون استراتيجية لمواجهة تلك الأفكار. الحاجة أصبحت ماسة لتكوين الهيئة الوطنية لمواجهة الإرهاب، لتضع استراتيجية تعليمية وإعلامية وثقافية وفكرية وفنية لمواجهة الإرهاب على المدى الطويل والمتوسط والقصير، ونحن في حاجة إلى عقل أمني مفكر أيضا، بعيدا عن التنفيذيين الواقعين تحت الضغط العصبي والنفسي للأوامر اليومية.