أدى ظهور جماعات جديدة تابعة لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وشمال إفريقيا إلى فتح الباب أمام التساؤل حول مدى تأثير المراجعات الفكرية التي قام بها عدد كبير من التنظيمات الإسلامية المسلّحة التي نبذت العنف في السنوات الأخيرة. فعلى الرغم من إعلان العديد من التنظيمات الإسلامية المسلّحة في المنطقة العربية، مثل الجماعة الليبية المقاتلة والجماعة الإسلامية في مصر، نبذها للعنف ومراجعة أفكارها، فإن ذلك يقابله ظهور أو إحياء تنظيمات جديدة في المنطقة على غرار تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، وشمال إفريقيا، والتي انضم إليهما عدد كبير من الشباب في السنوات الأخيرة. الدكتور "ناجح إبراهيم" مُنظّر الجماعة الإسلامية في مصر، وعضو مجلس الشورى فيها، يقول إن المراجعات كانت بطيئة في الوصول إلى الجيل الجديد من عناصر القاعدة. ومع ذلك، يَعتبر الدكتور "إبراهيم" أن مراجعات الجماعة الإسلامية -والتي كانت أولى الجماعات المسلّحة في الإعلان عن نبذها للعنف- كان لها تأثير عميق ليس فقط في مصر، بل في المغرب واليمن والسعودية وماليزيا وإندونيسيا وأستراليا أيضا. وكانت الجماعة الإسلامية قد اتُّهمت بارتكاب سلسلة من الهجمات الإرهابية في مصر والخارج في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. وكانت أول من أعلن نبذ العنف وإجراء مراجعات فكرية في عام 1997، مما أثار في حينها غضب الرجل الثاني في القاعدة الدكتور أيمن الظواهري. في حوار حصري مع lموقع "الشرفة" تحدّث الدكتور "إبراهيم"، والذي كتب معظم مراجعات الجماعة الإسلامية، حول أثر هذه المراجعات في الحد من ظهور تنظيمات جديدة وفي منع الشباب من الانضمام إلى الجماعات الإرهابية... بعد مرور أكثر من تسع سنوات على إعلانكم عن المراجعات الفكرية، كيف ترون تأثيرها على الجماعات الإسلامية المسلّحة؟ أهمية المراجعات الفكرية الخاصة بالجماعة الإسلامية أنها أول جماعة في تاريخ الحركات الإسلامية المسلّحة تعلن عن مراجعات لأفكارها بمحض إرادتها وبمبادرة منها، وليس بناء على طلب من الدولة أو الحكومة كما يقول البعض، فنحن أخطأنا وشعرنا أنه من واجبنا أن نقوم بإصلاح ما أفسدناه. ما أود ذكره أن فكرة المراجعات بالتأكيد خطرت على العديد من التنظيمات المسلّحة خاصة خلال فترة التسعينيات إلا أنها لم تجد نموذجا للاحتذاء به، ومن هنا جاءت الأهمية الخاصة للجماعة الإسلامية عن باقي أي مراجعات تلتها للتنظيمات الإسلامية المسلّحة في الدول العربية. إذن أنت تتحدث عن مستويين من التأثير، محلي وإقليمي، فهل توضّح أكثر؟ المحلّي تمثّل في فتح الباب أمام التنظيمات المحلية لأخذ نفس القرار الشجاع بمراجعة أفكارها وأولها جماعة الجهاد التي قامت بالمراجعات عام 2007، قادها منظّرها الشيخ "سيد إمام" الشهير بالدكتور "فضل"، شيخ الدكتور أيمن الظواهري الرجل الثاني في القاعدة. أيضا ساهمت الجماعة الإسلامية في مراجعات ما أطلق عليه "تنظيم سيناء" الذي قام بتفجيرات طابا عام 2004 وشرم الشيخ عام 2005، حيث قام قادة الجماعة الإسلامية بشرح المضامين الفقهية لكتب المراجعات الفكرية لهم في السجون، وتسبب ذلك في إعلانهم نبذ العنف وإلقاء السلاح. وهو ما أدى إلى النجاح الباهر لوقف مسلسل العنف في سيناء بعد عام واحد من القبض على التنظيم، وهذا جزء من قيمة ونجاح المراجعات الإستراتيجي، وهو تجفيف منابع الفكر التكفيري العنيف. أما التأثير الإقليمي، فقد كان قويا وأكثر من متوقع وهو تكرار التجربة مع تنظيمات مسلّحة في اليمن والمغرب، وبرنامج المناصحة الذي تنفّذه الحكومة السعودية لعدد من الإسلاميين، وقد استفاد هذا البرنامج بشكل كبير من الأفكار التي جاءت في مراجعات الجماعة الإسلامية، وأخيرا وليس آخرا إعلان الجماعة الليبية المقاتلة عن مراجعات فقهية لأفكارها. ولكن البعض يشكّك في الدور الذي يمكن أن تلعبه المراجعات بشكل عام في الحد من ظهور تنظيمات جديدة تؤمن بفكر القاعدة وغيرها من الجماعات الإرهابية؟ أولا مراجعة أي تنظيم إسلامي مسلّح لأفكاره ليس أمرا سهلا؛ فهي عملية طويلة ومعقدة، تتخللها مفاوضات شاقة داخل الجماعة التي تقوم بهذه المراجعات. فعلى سبيل المثال، كتابة المراجعات الفكرية الخاصة بالجماعة الإسلامية استغرقت عشر سنوات؛ لأنها تتعلق بوضع إطار فقهي فلسفي شرعي قادر على تصحيح فهم لأفكار وفتاوى إسلامية صدرت منذ قرون، تتعلق بأفكار عديدة مثل ضوابط وأحكام الجهاد والحاكمية وغيرها. ومن هنا يمكن القول بأن كافة المراجعات التي صدرت خلال العشر سنوات الأخيرة بداية من الجماعة الإسلامية وانتهاءً بالجماعة الليبية كوّنت تراكما معرفيا كبيرا يكفي لمواجهة فكر القاعدة وأي فكر إسلامي يؤمن بالعنف خلال القرون القادمة، فرؤية تأثير المراجعات على الجماعات الإسلامية المسلّحة يحتاج لوقت طويل. وما هي المؤشّرات التي تؤكّد تأثير المراجعات الفكرية على مكافحة التنظيمات الإسلامية المسلّحة؟ كان للمراجعات تأثير على تنظيم القاعدة؛ لأنها ضربتها في كيانها الفكري الضعيف، الذي يوجد به الكثير من الأخطاء الفقهية، وهذا حَدّ من قدرتها في الكثير من الأوقات على تجنيد عناصر جديدة. فعلى سبيل المثال، المراجعات الفكرية للجماعة الإسلامية وصلت إلى دولتي ماليزيا وإندونيسيا في الأعوام القليلة الماضية، ولاقت جماهيرية كبيرة بين ملايين الشباب المسلمين الذين كان البعض منهم يفكّر في الانضمام للحركة الجهادية الخاصة بتنظيم القاعدة أو تنظيمات مماثلة لها هناك. كما أن دولا غربية مثل أستراليا بدأت برامج تتبنى أفكار مراجعات الجماعة الإسلامية لإقناع بعض العناصر الإسلامية الموجودة لديها في السجون بالتخلي عن العنف. وفي الوقت نفسه، أثّرت المراجعات الفكرية لجماعة الجهاد التي كتبها الشيخ "فضل"، شيخ الدكتور أيمن الظواهري الرجل الثاني في القاعدة، على مستويات مختلفة في أعضاء التنظيم داخليا لفترة كبيرة من الوقت؛ حيث كشفت هذه المراجعات الأخطاء الفقهية الكبيرة التي وقع فيها تنظيم القاعدة، وخاصة ما يتعلق بأحكام وضوابط الجهاد. وماذا عن تأثيرها على الأجيال الجديدة من عناصر التنظيمات المسلّحة الحالية في العراق واليمن وشمال إفريقيا؟ تأثير المراجعات على الأجيال الجديدة في القاعدة وغيرها للأسف ضعيف، وذلك راجع إلى أن المراجعات الخاصة بالعديد من الحركات الإسلامية بها نقطة ضعف خطيرة، وهي ضعف التواصل مع المجتمع ونشرها بين الشباب، وهذا نابع من أنها لا تزال جديدة. هذا بالإضافة إلى أن بعض حكومات المنطقة العربية لا تزال متخوفة من احتكاك منظّري وقيادات الجماعات بالمجتمعات المحلية، ولكن قد يكون ذلك مسألة وقت. كمنظّر متخصّص في فكر الجماعات الإسلامية، كيف ترى البناء الفكري للقاعدة في الوقت الحالي؟ فكر القاعدة ضعيف للغاية وبه ثغرات كثيرة، أولها أن فكرها تكفيري، وهذا النوع من الفكر أشبه بالقنبلة الانشطارية، فعلى سبيل المثال إن اختلاف الآراء في القاعدة له علاقة بالكفر والإيمان. أما الثغرة الثانية، فهي أن هذه الجماعات لا تدعو الناس لله نفسه وللدخول في الإسلام، وإنما تدعو الناس للدخول في التنظيم، وليس كل الناس بل الشباب الصغار الأقوياء المتحمسين فقط كي يستغلوهم في القتال، وهذه الازدواجية بها مخالفة شرعية كبيرة. والثغرة الثالثة في فكر القاعدة هي القاعدة التي يقوم عليها فكرهم وهي "الجهاد للجهاد". إن الجهاد في الإسلام هو وسيلة وليس غاية، وجعل القاعدة الجهاد غاية أمر خطير جدا؛ لأنه يربط وجود الإسلام باستمرار القتال الدائم مع غير المسلمين أو المسلمين الذين اختلف معهم، فهم يخالفون أحكام الشريعة الإسلامية الخاصة بأحكام وضوابط الجهاد. ولذلك تجد القاعدة تقاتل في كل مكان دون تحقيق أي هدف لمجرد القتل فقط، وقد أدى قتالهم لقتل وإذلال المسلمين في الكثير من بقاع الأرض، ودماء هؤلاء في رقبة القاعدة، كما أن أعمالهم تضر الدول الإسلامية. والعنصر المشترك في 90% من تفجيرات القاعدة هو أنها تكون ضد مدنيين، وهم بذلك يقتلون الأطفال والنساء والشيوخ والرهبان والفلاحين. هذه مخالفة كبيرة لأحكام الشريعة التي منعت قتل هذه الفئات؛ لأنها لا تشارك في القتال. هل تلمّح إلى أن فكر القاعدة في مرحلة اضمحلال؟ فكر القاعدة يمر حاليا بأفول لم تشهده منذ تأسيسها؛ وذلك نظرا لكثرة الأخطاء الشرعية والاستراتيجية التي ارتكبها التنظيم خلال السنوات الماضية. ففي خلال التسعينيات لم تكن هناك مراجعات فكرية للجماعات الإسلامية المسلّحة، لذلك لم يكشف أحد الأخطاء الشرعية في فكر القاعدة.. أما الآن فهي أمام حرب أفكار شرسة، ولا أعتقد أنها قادرة على الفوز فيها لذلك فهي تتجنبها. عن موقع "الشرفة" 2/8/2010