حتى نكون جادين، نحن أمام قضية شائكة، أنا أتكلم عن الدين الإسلامي، دين أنتجته النبوة وتمثله بعض الصحابة، ودين آخر أنتجه التاريخ وتمثلته السياسة، وكان بينه وبين الأول بون شاسع، البعض يقول عليه التدين، وأنا مع هذا التوصيف، ولكن هذا التوصيف يحتاج إلى ثبات على الأرض، لم تأت الأديان عموما إلا بالقيم العليا الأخلاقية، وبالإنسانية. حاولت أن تتحرك بإنسانية الأفراد بالتدرج، فإذا رجعنا بالدين إلى الدين الأول فربما نراه خشنا أحيانا ومتراجعا إنسانيا عن وضعنا الحالي في بعض الأمور، كالتعامل مع المرأة أو الرقيق، فهو ينتقل من أوضاع أكثر خشونة إلى الأقل فالأقل، حتى تأخذ الأجيال اللاحقة أوضاعا أكثر عدالة وأكثر إنسانية، ففكرة العودة للأصول في المطلق تحتمل خطرا كبيرا في بعض الأمور وليس في كلها، فنحن نرجع بذلك إلى بيئات بدوية أكثر خشونة وأقل إنسانية في بعض الأمور، فليس كل عودة للأصول شيئا جيدا. في قضية القيم العليا، التراحم والتكافل والمروءة والإيثار والعدالة والحرية، فإن المنابع الأصلية صافية، تمثلتها أجيال لاحقة بدرجة أعلى من التمثل، وتراجع تدريجيا إلى أوضاع مأساوية، وارتكب المسلمون فظائع لا يجب تقديرها وتقديسها، بل هناك ضرورة للاعتذار عنها والتخفف من عبئها. المشكلة في تاريخ إنساني اختلطت فيه السياسة بالدين، وتم تسييس الدين منذ اعتلت المصاحف أسنة الرماح، وظهرت نجاعتها حتى بقيت مرفوعة على أسنة الرماح، وارتفعت لاحقا على أسنة الرشاشات ودانات المدافع وقنابل الطائرات، ما انتشر من كتب وإنتاج إنساني لم يكن عشوائيا وتلقائيا، ولكن كان تحت تأثير التدخل السياسي، وانتقال العلم من العرب إلى الفرس، كان تحت تأثير السياسة، فالعرب بشكل عام كانوا مناهضين للدولة العباسية التي انقلبت على الدولة الأموية، ولاحقا على البيت العلوي، وكان القادة الدينيون العرب أكثر تمنعا على الخلفاء، سواء الشافعي أو أبو حنيفة أو مالك أو ابن حنبل، واصطدموا كلهم بالساسة بمستويات مختلفة وتوافقوا على مستويات أخرى. وجاء لاحقا الطبري والبخاري ومسلم وابن إسحق وحتى سيبويه، وغيرهم لم يكونوا عربا، النسخ استمر حتى القرن التاسع عشر، وكانت الآستانة تمانع في طباعة الكتب الدينية فترة طويلة حتى رضخت في النهاية، بعد أن طبعت دولة محمد علي في منتصف القرن التاسع عشر. إذن الكتب كانت تنتشر بالنسخ، وإذا عرفت أن كتابا مثل البخاري 1800 صفحة ب180 ألف كلمة لعلمت أن القضية ليست سهلة، وأن النسخ يحتاج إلى مؤسسة ورعاة، ومن يرعى إلا الدولة، وأي كتب سترعى وتنشر، وهل أمنت قضية النسخ أم اخترقت قضية النسخ التي قام عليها الغلمان الفرس؟ بالتأكيد اخترقت، فقد اعترف المفسرون، وعلى رأسهم الشيخ الذهبي، فى كتاب هام عن اختراق الإسرائيليات لكتب التفاسير، ولم يستسن كتاب تفسير واحد من اختراق الإسرائيليات، وإن كانت الإسرائيليات لم تخترق إلا القصص النبوي الخاص باليهود سواء سليمان أو داوود أو موسى ويعقوب ويوسف، وغيرها من القصص، ولكن ما دام المبدأ موجودا، فمن السهل اختراق تلك التفسيرات بأمور أخرى مسيسة. وكذلك الزعماء الدينيون لم يكونوا منزهين عن الهوى، وليسوا بعيدين أيضا عن التأثر بقوة السياسة في هذا الوقت، وكان من السهل رفع الرعاية والمظلة المالية عن الممانعين، وقد قال علي بن أبي طالب قولا هاما عن القرآن، فقال: «إنه كتاب بين دفتين لا ينطق بلسان ولكن ينطق به الإنسان» وما دام ينطق به الإنسان فقد استنطق البشر القرآن وصاغوه طبقا لأهوائهم، ولأهواء السلطان، ومن يخترق التفسير، فلن يكون عاجزا عن اختراق ما أطلق عليه السُّنة، وبناء عليه فإن ما ستنطق وما نسب إلى النبوة كله محل شك، ويحتاج إلى نزع القداسة عنه ورفعه من مسمى الدين، ليطلق عليه التدين، فالتدين هي عملية تفاعل بشرية مع النص لإنزاله على واقع بذاته، ولذلك فقد أحيي ابن تيمية بعد موات، وتم تجاهل فقيه مثل الطوفي الذي قدم المصلحة على النص. يهمنا أن نحيي الطوفي من جديد، ونتجاهل آخرين، وليست القضية أن نرفع الطوفي ونخفض آخرين، ولكن القضية الأهم، أن نفتح النص على مصراعيه، وننتج فقها جديدا يتفاعل مع عصرنا ويكون أكثر إنسانية، ولا نغلقه ولا ننسبه للدين، فهو منتج بشري يخص عصرنا، ونترك الحرية لأجيال لاحقة لإنتاج تدين جديد يكون مناسبا لعصرهم. لو استطعنا رفع نسبة الدين إلى هذه المنتجات البشرية، ووصفناه بأنه تدين بما يحمله اللفظ من بشرية خالصة ليست ملزمة، وأنه نص توافقي ينتجه مجتمع لا فرد، ولا يحتكره فرد، فنحن بذلك نقدم العقل على النص، ونقدم التوافق الاجتماعي على التوافق الفقهي، ما دام الموضوع بشريا في بشري، فلا وصاية لتاريخ على حاضر، ولا وصاية لحاضر على مستقبل. وهذه مشكلتنا مع الأزهر كمؤسسة، فالمشكلة ليست في الإمام الطيب، ولكن في السيستم، لأنه لو جاء أي شخص آخر على نفس السيستم، فإن المشكلة قائمة. عندما يقول التدين اللاحق، إنه لا يقتل مسلم بكافر، ويكون على المسلم أن يقتل المسيحي، ولا يقتص منه ولكنه يدفع الدية، ويأتي الخلاف.. هل يدفع نصف الدية أو ثلثها، وليس دية كاملة هو محور النقاش، ويقال إن هذا دين، فهذا كلام يجب رده وإنكاره، حتى لو أنتجه القدماء، حتى لو كانوا يطلق عليهم السلف الصالح، فإن هذا المنتج غير صالح لزماننا، ناهيك بزمنهم، فهذا محل بحث، فلا أعتقد أنه كان منطقيا وعقلانيا لعصرهم، الفقه الذي احتقر الموالي بشكل عام وهم الفرس واعتبرهم ليسوا كفؤًا للعرب، وكانو يطلقون الفارسي الذي يتزوج عربية ويلحقون به الإهانة والعار، فمن المؤكد أن هذا ضد القيم الأساسية للإسلام، وهي الناس سواسية كأسنان المشط، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. فليتلاعب الفقهاء كما يشاؤون، لهم عصر يعبثون به، ولكن العبث كل العبث، أن تفرض وصاية لهذا الفقه على عصرنا الحديث، حتى فقه الجواري والعبيد، فهو غير صالح لجيلنا وعصرنا، حتى لو احتمله النص المقدس، فهناك فرق شاسع بين قداسة النص وقداسة الحكم. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن النص المقدس أعطى مساحة لضرب المرأة، والنص مقدس لا شك في ذلك، ولكن هذا الحكم نزل لمجتمع بدوي، كانت تورَّث المرأة، وكانت تنتقل من زوجها لقاتله بعد حرب انتصر فيها الطرف الآخر، بانصياع تام، فكان للمجتمع دور في تدني شخصيتها، وكان الشخص يورث زوجة أبيه ويعاشرها بعد وفاته بمنتهى الأريحية، فإذا سمح النص المقدس بهذه الممارسة مع هذا النوع من النساء الذي خرج توًّا من تلك الجاهلية، فمن المؤكد أن قداسة هذا الحكم غير ممتدة، أو غير عامة، فربما ينجح هذا الأمر في مجتمع متدن حضاريا، ولكنه بالتأكيد ليس مطّردا تماما في أي مجتمع أخذ قسطا من التعليم وترقى في مستويات الحضارة. مشكلتنا مع الأزهر هي مشكلة سيستم وليست مشكلة شخص. لو استطاع الأزهر أن يتجاوز هذه القضية المحورية واعتبار ما أنتجه التاريخ على مدى 14 قرنا، سواء كان فقها أو علم حديث أو علم تفسير أو علم لغة، هو مجرد إنتاج بشري وهو ليس ملحقا بالدين، وهو مجرد تدين يخصهم ولا يلزمنا، فلا مانع بالتأكيد من الاستفادة منه وبخاصة فيما يخص العبادات وما يخص الطهارة والنجاسة، وما يخص جزءا من الأحوال الشخصية وليس كلها. أما ما يخص المجتمع وما يخص السياسة وما يخص المعاملات، فهو منتج غير منزه عن الهوى وعن التدخل السياسي، وهو مجال للبحث والنقد. أما فكرة الالتزام بكل ما قالوه عن دار السلم ودار الحرب، والولاء والبراء، والربوبية والألوهية، وكأنه جزء لا يتجزأ من الدين، فأنتم بذلك تحملون الدين ما لا طاقة له به، وتحملون الأجيال اللاحقة أعباء أكثر، وهو مبرر كبير للتحرر من هذا التدين البشري اللا إنساني في بعض بنوده، والذي ينسب إلى الدين عنوة وعنادا وكبرًا، وإن لم نغير هذا السيستم، فإن معدلات الإلحاد واللا دينية في ارتفاع كبير، والموجة أعلى مما تتخيلون، والوقت ليس في صالح الدين ولا في صالح المؤسسة، فتخففوا من أعباء أثقلت كاهل الدين، وآن لكم أن تضعوها.