منذ انطلقت الدعوة لإصلاح وترشيد الخطاب الدينى انقسم المجتمع المصرى بكل فئاته حول صورة وأسلوب ووسائل هذا الترشيد بل ان القضية انتقلت الى آفاق اوسع واشمل فى الدول العربية والإسلامية امام تفاقم ظاهرة الإرهاب واستخدام العنف بصورة شوهت الإسلام العقيدة والدين امام العالم كله. كان الهدف من الدعوة ان يفتح علماء المسلمين آفاق الاجتهاد والحوار والخلاف فى الرأى وتوضيح الصورة الحقيقية للإسلام وعلاقته بالعقائد الأخرى لأن الإسلام فى جوهره كان عبر عصور التاريخ دين التسامح والرحمة والتعايش الآمن مع الآخر. – انقسمت الآراء حول ترشيد الخطاب الدينى ومن أين نبدأ وعلى من تقع مسئولية هذا الحوار هل هم علماء الدين ام هى مؤسسة الأزهر الشريف بتاريخها وتراثها ام ان المسئولية اكبر من ذلك وتتطلب حوارا فكريا شاملا وواسعا يضم النخبة من كبار المفكرين والمثقفين وأصحاب الرؤى فى الساحة الثقافية. – هنا اشتد الخلاف بين علماء الدين لأنهم الأحق بالمسئولية وكبار المثقفين لأنهم يرون ايضا ان القضية اشمل واكبر من إطارها الدينى ويجب ان تكون قضية فكر وثقافة مجتمع. اتسعت دائرة الخلاف من الأحق ومن الأجدر بقضية الخطاب الدينى وشهدت الساحة سجالا واسعا حاول البعض فيه ان يقول ان إصلاح الخطاب الدينى شأن ثقافى وهنا ظهر مصطلح الخطاب الثقافى مواجها للخطاب الدينى. – وفى تقديرى ان فى ذلك تجاوزا وخلطا كبيرا لأن الخطاب الثقافى شئ والخطاب الدينى شىء آخر. كما ان لكل خطاب رموزه التى يحق لها ان تفتى فيه. ولهذا من الخطأ ان يرى البعض ان من حق الرموز الثقافية ان تكون صاحبة الكلمة فى ترشيد الخطاب الدينى فليس هذا اختصاصها وهى غير مؤهلة له ولهذا يجب ان نوضح أولا ما هى مسئولية الخطاب الدينى وما هى مسئولية الخطاب الثقافى ومع من يتعامل كل خطاب. لا اعتقد ان من حق الخطاب الثقافى ان تكون له وصاية على الخطاب الدينى وهو كما يبدو يطالب بذلك. ان الأساس الذى يقوم عليه الخطاب الثقافى يختلف فى كل مقوماته عن الخطاب الدينى والقضية تحتاج الى توضيح اكثر. ان الخطاب الدينى ينطلق من ثوابت دينية إلهية تتمثل فى الكتب السماوية ومنها القرآن الكريم واقوال الرسول محمد عليه الصلاة والسلام وأحاديثه النبوية الشريفة ومن كتب التراث التى اتفق عليها علماء المسلمين عبر عصور مختلفة. وهذا يعنى ان ثوابت الدين تختلف تماما عن مقومات الثقافة. على جانب آخر ومن حيث التخصص فإن الدين علم مثل كل العلوم فيه التخصصات فى جوانب مختلفة لأن العالم فى الحديث غير العالم فى التفسير غير العالم فى الفقه هذه تمثل خلافات جوهرية بين من يفتى فى الدين ومن يتحدث فى الثقافة. على الجانب الآخر فإن الخطاب الثقافى يقوم على جهد ابداعى انسانى قابل للتطور بل والتغير بل والحذف والإضافة. وكما ان فى علم الأديان تخصص فإن فى الإبداع الثقافى اكثر من تخصص سواء فى المبدعين انفسهم او من يتناولون هذا الإبداع بالنقد والتوجيه إن ففى الثقافة يوجد الشعر والرواية والقصة والمسرح وفيها ايضا الفنون المختلفة مثل الرسم والنحت والعمارة وكلها جهد انسانى بديع يتطور ويلغى نفسه بنفسه ويسعى دائما للتجديد عبر عصور الأجيال المختلفة. – من حيث الرموز والأدوار هناك خلاف بين مكونات وأصول الخطاب الدينى والخطاب الثقافى وهنا ايضا كان الخلاف فى المصادر والثوابت والقواعد التى تحكم الخطابين. كان ينبغى ان يكون كل طرف من هذه الأطراف على وعى بمسئولياته ودوره وألا تختلط الأدوار بينهما فليس من حق الخطاب الثقافى ان يطالب بالوصاية على الخطاب الدينى وفى نفس السياق لا ينبغى ان يطالب الخطاب الدينى بأن يكون صاحب الكلمة فيما يتعلق بالفن والثقافة وتبقى المسافة بين الإثنين هى التى تحكم العلاقة بينهما بحيث تقوم على الإحترام والحوار والمسئولية. ان الأزمة الحقيقية التى تعرض لها الخطاب الدينى هى اقتحام بعض الأشخاص من الخطاب الثقافى للساحة الدينية وترتب على ذلك صراعات مازلنا نتابعها فى ساحات المحاكم وأروقة السجون. لو ان كل خطاب التزم بحدود اختصاصاته لما حدثت كل هذه الصراعات. ان السؤال الأهم لماذا كانت الساحة الدينية دائما هى الأرض المفتوحة لكل من اراد ان يدخل فيها دون ضوابط او قواعد ولم يحدث هذا عندنا فقط بل كان ظاهرة عالمية شهدت صراعا ازليا بين الأديان والإبداع. فى تاريخ العالم اعمال ابداعية كبرى اقتحمت ساحات الأديان مثل الكوميديا الإلهية لدانتى. والفردوس المفقود لملتون والتى ترجمها ببراعة للعربية كاتبنا ومبدعنا الكبير د. محمد عنانى استاذ الأدب الإنجليزى وفى الأدب العربى كانت رسالة الغفران لأبى العلاء المعرى سباحة جريئة فى مناطق على درجة من الحساسية فى الفكر الإسلامى وكانت اولاد حارتنا لنجيب محفوظ مثار خلاف كبير بل ان اشعار ابن عربى والحلاج وابن الفارض كانت مجالا واسعا لمعارك تاريخية دامية بين اهل الفكر والإبداع ورجال الدين ولم يكن كتاب طه حسين الشعر الجاهلى موقفا دينيا من التراث ولكنه كان موقفا نقديا يدعو لإستخدام العقل فى تفسير النص الأدبى ولن ننسى فى هذا السياق عبقريات العقاد ولا إبداعات خالد محمد خالد والتى جمع فيها بين الدين والثقافة وجاء بعد ذلك ادونيس ليكون اكثر اقتحاما وهو يعلن صراحة انه لا قدسية لنص، هذه الأعمال والإبداعات والمواقف كانت مناطق اشتباك حادة بين ما هو دينى وما هو ثقافى فى الفكر والإبداع ويبدو ان هذا الصراع لن ينتهى حتى وان كان كل جانب يرى ان قضيته ان يتخلص من الآخر وهذا وهم كبير فلا الإنسانية سوف تتخلى عن عقائدها ولا البشر سوف يتركون ساحات الإبداع. – فى الفترة الأخيرة ونحن نتحدث عن ترشيد الخطاب الدينى وما دار حول ذلك كله من خلافات ومعارك اطل علينا الخطاب الثقافى فى اكثر من مؤتمر وأكثر من وجهة نظر ورأى ولا احد يستطيع ان يتجاهل الخطاب الثقافى ولكن الكارثة ان يرى البعض انه البديل عن الخطاب الدينى او ان الخطاب الثقافى يمكن ان يكون الوصى على الخطاب الدينى لأن فى ذلك تسطيح للقضايا وتشويه لحقائق الأشياء فالدين شىء والثقافة شىء آخر انهما يلتقيان كثيرا ولكن ليس من حق احدهما ان يكون وصيا على الآخر لأن فى ذلك اعتداء صارخ على حرية العقل وحرية العقيدة وخلطا للأشياء لا مبرر له على الإطلاق. – لقد شهدت مجتمعات كثيرة قبلنا هذا الإنقسام بين ما هو دينى وما هو ثقافى لقد حسمها البعض كما حدث فى اوروبا فى عزل الدين عن شئون الحياة وان بقيت دور العبادة لمن اراد ان يمارس طقوسا دينية وفى مجتمعات اخرى بقى الجانب الدينى يمثل أحد الثوابت الرئيسية فى سلوكيات البشر وان تعرض في حالات كثيرة لموجات حادة من الإلحاد تحت دعاوى الحضارة والتطور. وفى مصر يخطئ من يتصور إمكانية إقصاء الدين عن دوره فى حياة الناس حتى ولو اخذ صورا مظهرية تتناقض تماما مع جوهر الأشياء إلا ان الجانب الثقافى له حسابات خاصة مع رجال الدين فى مصر منذ زمن بعيد وهناك رواسب كثيرة بين ما هو دينى وما هو ثقافى والسبب فى ذلك ان السياسة كانت طرفا رئيسيا فى هذه المعادلة لأن الدين لم يكن دينا خالصا ولأن الثقافة عبثت فيها تيارات سياسية كانت على عداء دائم مع الدين والحل ان يدرك كل طرف مكانه وإذا كنا نقول انه لا سياسة فى الدين فينبغى ايضا ان تتطهر الثقافة من براثن السياسة فقد افسدت السياسة الدين والثقافة معا. هناك تيارات دينية على عداء دائم مع الثقافة والفكر وصوت العقل وهناك مدارس ثقافية ترفض الأديان وهى على عداء دائم معها وكلاهما على باطل. اننى على يقين ان الخلافات بل والصراعات بين الخطاب الدينى والخطاب الثقافى هى التى جعلت الإصلاح فى الإثنين امرا صعبا إذا لم يكن مستحيلا لأن كليهما يرى ان الوصاية له وحده وان قوة احدهما تعنى ضعف الآخر، وان القضية كما كانت دائما "لست معى فأنت ضدى" وبحكم المنطق وطبيعة الأشياء فإن الحرية التى يتطلبها الإبداع فى الثقافة تتعارض فى كثير من جوانبها مع ثوابت الأديان وهذه قضية شائكة للغاية لقد بدأ الحديث حول هذه القضية منذ ما يقرب من عامين ولم تصل الى نتائج والسبب فى ذلك ان كل طرف يريد ان يكون له حق الوصاية وقد انعكس ذلك على لغة الحوار حيث دخلت احيانا فى مناطق الإتهامات ما بين علماء الدين ورجال الفكر والثقافة والشىء المؤكد ان الطرفين خسرا فى ذلك. – والسؤال الأن ما هو الحل. لا بديل غير التلاقى بين العقيدة والفكر بين النص الالهى والنص البشرى بين ان يكون المثقف مدركا لحدوده ومسئولياته وان يدرك رجل الدين انه لا يملك الوصاية على شاعر او مبدع او رسام. ان اخشى ما اخشاه ان فى مصر الآن من يطالب بحكم الإختصاص والمتابعة ان يكون الخطاب الدينى جزءا من الخطاب الثقافى وهذا ضد المنطق والحقيقة. لقد اجتمع الإمام الأكبر د. احمد الطيب مع نخبة من مثقفى مصر اكثر من مرة واصدر الأزهر وثيقة وبيانا حول العلاقة بين الدين والثقافة وفى هذا البيان تقدير شديد لدور المثقفين والقضية ليست معركة او زعامة او من يمارس دور الوصاية على الآخر، ان تجديد الخطاب الدينى تقع مسئوليته الأولى على رجال الدين وليس هناك ما يمنع ان يكون لأهل الثقافة دورهم فى ذلك ولكن يجب أن تكون المسافات واضحة ومرسومة ان الدين دين والثقافة ثقافة ولا داعى ابدا للإنقسام وإعلان الميليشيات الفكرية والدينية لأن المعركة واحدة ضد التخلف والجهل والإرهاب سواء حملت الإصلاح الدينى او الإصلاح الثقافى فالقضية واحدة وان اختلفت الروافد بشرط ان يدرك كل طرف مسئولياته ودوره.