لم أكن أعرف إدواردو جاليانو الكاتب الأوروجوانى المولود فى مونتيفيديو فى الثالث من سبتمبر 1940 قبل أن تنشر له جريدة «أخبار الأدب» مقتطفات من كتابه «ما يشبه تاريخًا للعالم»، ومن يومها وأنا أبحث عن كل ما كتبه وما تمت ترجمته إلى العربية. بعد أن قرأتُ هذ الكتاب كنت أتساءل: كيف يحول إدواردو جاليانو الأحداث التاريخية إلى كتابة ممتعة، إلى نصوص أدبية يصعب تصنيفها هل هى قصص قصيرة أم رواية من عدة فصول؟ إلى أن قرأت مقدمة كتابه «ذاكرة النار-سِفر التكوين» فعرفت أنه ثأر قديم بينه وبين حصص التاريخ كما يقول هو «كنت طالب تاريخ بائسا، كان حضور دروس التاريخ يشبه الذهاب إلى معرض التماثيل الشمعية أو إلى إقليم الموتى، كان الماضى ميتًا أجوف وأخرس، علّمونا عن الماضى بطريقة جعلتنا نستكين للحاضر بضمائر جافَّة لا لنصنع التاريخ الذى صنع سابقًا بل لكى نقبله. توقَّف التاريخ المسكين عن التنفس، تمت خيانته فى النصوص الأكاديمية». وهذا التاريخ المسكين الذى توقف عن التنفس وُجد إدواردو جاليانو، ليعيد كتابته لا كما جاء فى النصوص الأكاديمية التى ربما كتبها المنتصر، ليعيد إليه التنفس ويجعله قادرًا على الحياة ومحفزًا على التأمل فى أحداثه من جديد، ففى كتابه «مرايا ما يشبه تاريخًا للعالم» يقول جاليانو: «بعد ثلاثة قرون من نزول كولومبس فى أمريكا أبحر القبطان جيمس كوك عبر بحار جنوب الشرق الغامضة وغرس العلم البريطانى فى أستراليا ونيوزيلندا وشق الطريق إلى غزو جزر المحيط اللا متناهية وبسبب لونهم الأبيض ظن الوطنيون أن أولئك المبحرين هم موتى راجعون إلى عالم الأحياء ومن تصرفاتهم عرفوا أنهم راجعون للانتقام». من السمات المميزة لكتابة جاليانو أنه يستخدم السخرية أحيانًا، ولكنها سخرية موجعة كما فى هذا النص «حدث فى بداية القرن السادس عشر بعد يومين من عيد الميلاد تمرُّد العبيد فى معاصر السكر فى سانتو دومينجو التى كانت مِلكًا لابن كريستوفر كولومبس. بعد انتصار العناية الإلهية، وأسقُف سانتياجو امتلأت الدروب بزنوج مشنوقين». وفى كتابه «كرة القدم بين الشمس والظل» لا يفوّت جاليانو الفرصة ليعيد قراءة تاريخ العالم على خلفية تاريخ كرة القدم مازجًا بأسلوب سلس بين كرة القدم والتاريخ والسياسة منتقدًا سيطرة قوانين السوق على لعبة كرة القدم فى السنوات الأخيرة، والتى حولت اللاعبين إلى آلات يجب عليها أن تنتج لترتفع أرصدة شركات الدعاية والإعلان والنقل التليفزيونى سالبة اللعبة المتعة التى كانت تتميز بها فى الخمسينيات والستينيات.. إنهم يلعبون اليوم من أجل الربح أو لمنع الخصم من الربح وهذا هو الأسوأ، ولكن يظهر على الدوام بين اللاعبين أناس يجعلون الوهم ممكنًا». نعرف أيضًا أن كرة القدم كانت تتسبب أحيانا فى قيام الحروب كما حدث بين السلفادور وهندوراس، وأن انقسام يوغوسلافيا بدأ فى ملاعب كرة القدم عندما كان يلتقى فريق دينامو زغرب مع رِد ستار بلجراد لتستيقظ من جديد الأحقاد التاريخية بين الصرب والكروات. يستعيد جاليانو حشدًا كبيرًا من الذكريات واللحظات الساحرة فى تاريخ كرة القدم مستخدمًا لغة تقترب من الشعر أحيانا، فهكذا يرى جاليانو ملعب كرة القدم.. هل دخلتَ يوما إلى استاد مُقْفِر؟ جرِّب ذلك.. توقف فى منتصف الملعب وأنصت. ليس هناك ما هو فارغ أكثر من استاد فارغ، ليس هناك ما هو أكثر بَكَمًا من المدرجات الخاوية. فى استاد ويمبلى ما زالت تدوّى ضجة مونديال 1966 الذى كسبته إنجلترا، ولكنك إذا أصغيت جيدا فستسمع زفرات آتية من مونديال 1953 عندما فاز الهنجاريون على المنتخب الإنجليزى. واستاد الذكرى المئوية «ثنتيناريو» فى مونتيفيديو يتنهد حنينًا إلى أمجاد كرة القدم الأوروجوانية، ولا يزال استاد ماراكانا يبكى الهزيمة البرازيلية فى مونديال 1950.