هل يحتاج سياسيونا إلى فترة صمت وهدوء لالتقاط الأنفاس، ولينسوا مؤقتًا خلافاتهم المزمنة ومكايداتهم لبعضهم البعض، ويجتمعوا معًا لعدة أيام فى «خَلوة» بأحد الأماكن السياحية ذات الطبيعة الخلابة، وما أكثرها فى مصر، وبعيدًا عن روتينهم اليومى المعتاد والممل، ورحمة لأنفسهم ولنا من الظهور على شاشات الفضائيات وصفحات الجرائد، وينهمكوا فى جلسات «عصف ذهنى» جماعية وجادة، تسعى للاتفاق على حلول مبتكرة لمشكلاتنا اليومية المزمنة، والتى يئنّ تحت وطأتها المواطن المطحون ما بين الاكتواء بلهيب الأسعار، والتردى المذهل للخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والنظافة والماء والكهرباء؟ هناك تجربة تتفرد بها دولة الإمارات، وتنفذها منذ سنوات، وهى عقد جلسات «خلوة وزارية» منتظمة، للتركيز على قضايا معينة تحتاج إلى تطوير وابتكار، وذلك بتشكيل كيان باسم «مختبر الإبداع الحكومى» تنبثق عنه مجموعات تقودها شخصيات بارزة، مهمتها النظر فى آلاف الأفكار والمقترحات التى تنتج عما يسمى جلسات «العصف الذهنى الإماراتى». آخر جلسات تلك «الخلوة» كان الأسبوع الماضى، وعقدت فى جزيرة «صير بنى ياس»، وهى واحدة من كبرى الجزر الإماراتية التى تنطق بمفردات الحياة الطبيعية البرية والبحرية، ووفقًا لأجندة غير تقليدية هذه المرة، إذ دعا نائب دولة الإمارات وحاكم دبى الشيخ محمد بن راشد، وهو الذى ابتدع مفهوم «الخلوة الوزارية» منذ عام 2007، المواطنين والمقيمين بالإمارات للمشاركة فى «عصف ذهنى وطنى» شامل، لطرح مقترحات وآراء لتطوير قطاعى الصحة والتعليم فى البلاد. التفاعل الشعبى مع الدعوة، التى أطلقها محمد بن راشد عبر تغريدة له على «تويتر» فاق حدود التوقعات، حيث أعلن الرجل وهو يفتتح أعمال «الخلوة» أن النتيجة كانت (65) ألف فكرة، ابتدعها الناس تلبية لنداء حكومة يثقون فيها، ورجال يحققون أفكار وأحلام شعوبهم، مما جعل الدولة تقرر تعميم تجربة «مختبر الإبداع الحكومى» على الجهات الاتحادية كافة، كممارسة قياسية معتمدة لتطوير الخدمات الحكومية فى الدولة، ومواجهة التحديات الميدانية التى تظهر عند تطبيق الخطط الموضوعة سلفًا، والتى ربما وضعها خبراء ومتخصصون لكن «أهل الميدان» قد يجدون فيها، على أرض الواقع، خللًا أو عدم صلاحية عند التطبيق. مختبرات «الإبداع الحكومى» تلك تستمر أيامًا، وتضم ورش عمل متخصصة، تناقش الوضع الحالى لأى تحدٍّ ضمن أرقامه الصحيحة ومعطياته الدقيقة، ثم يبدأ المشاركون فيها بعقد جلسات «العصف الذهنى» لتطوير أفكار وحلول إبداعية عبر أنماط غير تقليدية، ويعقب ذلك جلسات مع المسؤولين ومتخذى القرار لإقرار مجموعة من الأفكار والحلول بالاتفاق مع أهل الميدان، وصياغتها كخطط نهائية قابلة للتنفيذ، ومتفق عليها بين الأطراف كافة والمعنية بالتنفيذ. ولتقريب الصورة إلى أذهان القراء، فإنه فى «الخلوة الوزارية» الأخيرة على سبيل المثال، وفى مجال تطوير القطاع الطبى، تم تقسيم الحضور من وزراء وأطباء وممرضين وإداريين إلى خمس مجموعات، كل منها يختص بمحور معين، منها ما عمل على ابتكار حلول ل«تطوير جودة الخدمات الصحية»، وأخرى مسؤولة عن «رفع كفاءة الكوادر الطبية»، وثالثة اختصت ب«تطوير الخدمات الطبية التخصصية»، ورابعة ناقشت «تغيير الأنماط الصحية»، بينما ركزت المجموعة الخامسة على «الإجراءات الوقائية». والمهم واللافت هنا أن تلك المجموعات الخمس ترأسها خمسة من أهم شيوخ الأسر الحاكمة فى دولة الإمارات، وهم وزراء: الداخلية، سيف بن زايد، وشؤون الرئاسة، منصور بن زايد، والخارجية، عبد الله بن زايد، والمالية، حمدان بن راشد، والتعليم، حمدان بن مبارك آل نهيان. والرسالة الواضحة من وراء حشد تلك الأسماء فى مجموعات العمل، التى رأسها كلها محمد بن راشد نفسه، هى أن الأمر جد لا هزل فيه، وأن ما يتم الاتفاق عليه سينفذ، ومن دون أى إبطاء. نعود إلى «خيبتنا» القوية فى سياسيينا، ونطرح عليهم السؤال الذى بدأت به المقال: هل ترحموننا وترحمون أنفسكم من الظهور اليومى على شاشات الفضائيات وصفحات الجرائد، و«تقلدون» أشقاءنا الإماراتيين فى جلسات «العصف الذهنى»، وتقفون على أولويات هذا الوطن؟ بالله عليكم، ألا تشعرون بالإحراج من كثرة الحديث فى القضايا السياسية، والانتخابات الرئاسية أولًا أم البرلمانية، والصراع حول شخصية الرئيس القادم، بينما لا تحاولون (مجرد محاولة) الاجتماع معًا من أجل الاتفاق على تحديد الأولويات، وتقديم الحلول المبتكرة، التى يشارك الشعب نفسه فى وضعها عبر «عصف ذهنى» جماعى، والتى تُخرجنا مما نحن فيه من «خيبة»؟ وقبْل سياسيينا، هل يرى ويتعلم شبابنا، المنهمك والمنهك من النضال عبر صفحات «فيسبوك» و«تويتر»، من تجارب شباب عربى يحب بلاده بجد، ويبدع أفكارًا تبنى هذا الوطن، بدلًا من النكات الظريفة والتعليقات الساخرة التى يطلقها كل منّا، ثم ينام مرتاح البال والضمير؟!