وكان مناخ الأسابيع القليلة التى أعقبت الاحتلال كئيبا وغريبا وثقيلا على النفوس فى آن، خصوصا أنه هبط على مصر كالكفن، بعد عام واحد من نشوة الحرية والعزة والكرامة المصرية بعد وقفة عابدين فى سبتمبر من العام السابق عليه. وهو مناخ يذكرنا كثيرا بما جرى بعد عام واحد من نشوة 11 فبراير 2011، وبتخلى الإخوان عن الثورة من أجل ركوبها فى احتفالات عيدها الأول. وبما جرى فى محمد محمود وما بعد محمد محمود من مؤامرات المجلس العسكرى والإخوان. لأنه المناخ الذى تخلى فيه كثير من الذين تحالفوا مع عرابى عقب وقفة عابدين المظفرة الشهيرة، وانضموا إلى حزبه الوطنى الحر، بل وخانه كثير منهم خيانات صريحة كتلك التى قام بها محمد سلطان باشا، الذى كرر الإخوان دوره بعد أكثر من قرن. عندما قسموا الصف، وشرعوا منصات التآمر مع السلطة، والاتفاق مع السفيرة الأمريكية السليطة، ضد منصة الثورة فى عيدها الأول. ولا شك أن عرابى وصحبه قد عانوا ويلات هذا الغم المضاعف والكدر، طوال الفترة التى امتدت من هزيمة التل الكبير فى 15 سبتمبر 1882، وحتى محاكمتهم ومغادرتهم مصر للمنفى فى 28 ديسمبر 1882. لأن هذه الأسابيع العشرة قد شهدت إلى جانب تفشى البلبلة بين الناس كى تزيدهم غمّا وإحباطا حملات التنكيل بالوطنيين، بما فى ذلك تفكيك الجيش نفسه عندما أصدر الخديو فى 19 سبتمبر مرسوما بإلغاء الجيش المصرى، لأنه شايع العصاة. كما شهدت حملات تشويه الثوار وعلى رأسهم أحمد عرابى وصحبه، ومحاكمتهم فى صحف القصر الصفراء وأجهزة إعلام الخيانة. خصوصا بعدما أعلن الإنجليز بوضوح وصرامة للخديو، كما عرضت على القراء، أنهم يرفضون كلية رغبته فى الانتقام منهم وإعدامهم. والواقع أن من يقرأ تفاصيل عملية تشويه عرابى وصحبه، وإطلاق الإشاعات الدنيئة عن تآمره مع الإنجليز فى التل الكبير، بينما كانت المؤامرة الكبرى على مصر قد حيكت فى قصر الخديو الخائن وقام بتنفيذها لصالح الإنجليز أعوانه من الأعيان الخونة والمثقفين. أقول إن من يقرأ تفاصيل هذه العملية التى تمت هندستها بقصر الخديو الخائن بعدما أحبط أسياده الجدد من الإنجليز نزعاته الانتقامية من عرابى والعرابيين، تتراءى له مختلف حملات تشويه الثوار الذين يرجع إليهم الفضل فى القيام بثورة 25 يناير ونجاحها، على مدار العامين الماضيين، والذين يتساقطون ضحايا التشويه والافتراءات واحدا وراء الآخر، لكن الفرق الجوهرى بين الموقفين، أننا نعرف الآن، وبيقين بعدما توفرت لنا الوثائق والحقائق، أن ما تعرض له أحمد عرابى اعتمد كلية على الافتراءات والأكاذيب. ومع ذلك فإنه لم يؤثر على عرابى وصحبه وحدهم، ولكنه أثر على مصر كلها. كما هو الحال الآن بعد ثورة 25 يناير 2011. فقد ضاعت فى زحام حملة تشويه الوطنيين، وترسيخ أقدام الاحتلال كل الإنجازات الإيجابية، وبطولات زعماء الثورة من أمثال محمد عبيد، وراشد باشا حسنى بطل معركة القصاصين، وحسن رضوان قائد المدفعية فيها، الذى حظى باحترام ولسلى نفسه، فلما وقع فى الأسر وسلم سيفه، أعاد له ولسلى سيفه تقديرا له واحتراما لبسالته. وضاعت معها حقوق مصر نفسها، وعلى رأسها حق الخديو الخائن فى حكمها، وقد تصور أن الإنجليز جاؤوا للقضاء على الفتنة وترسيخ حكمه، بينما لم ينل منهم، ولهم كل الحق، غير الاحتقار كما تجلى فى إنذار لورد جرانفيل له. لكن أهم ما ضاع فى زحمة هذه الحملة أيضا هى الحقيقة وراء إنقاذ عرابى وصحبه من الإعدام، ووراء اختيار سيلان منفى له. لأن ما نسيه كثير من الذين كتبوا عن الثورة العرابية هو أن مكانة مصر التاريخية لعبت دورا فى هذا كله، وفى الحيلولة دون اعتبارها مستعمرة بريطانية بعد احتلال الإنجليز لها كما ذكرت. فعلى طول العام الذى انصرم منذ انتصار الثورة العرابية فى وقفة عابدين الشهيرة واحتلال الإنجليز لمصر، دارت على الساحة الأوروبية عامة، وفى بريطانيا خاصة عدة معارك لا تقل أهمية عن تلك التى عانى منها العرابيون ومعهم ثوار الحزب الوطنى المصرى الأول، حزب عرابى، فى الفترة نفسها من شد وجذب بين قوى التخلف والرجعية التى مثلها الخديو من ناحية والإنجليز من ناحية أخرى، وبين قوى التقدم التى مثلها عرابى ومن خلفه معظم المصريين الذين يحبون بلدهم ويحلمون بالاستقلال والحرية والتقدم من ناحية أخرى. أو بحقهم فى العدل والحرية، حسب الشعارات التى سرعان ما ترددت من جديد فى ثورة 25 يناير: «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية». والواقع أن الثورة العربية لم يقتصر تأثيرها على مصر وحدها، ولكنها حركت الكثير من المياه الراكدة فى بريطانيا نفسها، وفى واحدة من أقرب مستعمراتها إليها وأكثرها تجانسا معها، ألا وهى أيرلندا، فقد كانت النزعة الوطنية الأيرلندية قد أخذت فى التبلور والتنامى منذ منتصف القرن التاسع عشر بزعامة دانيل أوكونيل، خصوصا عقب المجاعة الشهيرة (1845-1849) وصولا إلى تكوين عصبة الأرض الأيرلندية عام 1879، قبل عامين من الثورة العرابية، ثم أخوّة الجمهورية الأيرلندية عام 1882 إبان احتدامها. وقد رأى كثير من أنصار استقلال أيرلندا فى الثورة العرابية نظيرا وخدينا يستحق الدعم والتشجيع. وكان أبرز هؤلاء جميعا وأكثرهم تأثيرا هو الشاعر الإنجليزى ويلفريد سكاون بلنت (1840-1922) Wilfrid Scawen Blunt وزوجته ليدى آن بلنت، وهى حفيده الشاعر الرومانسى الإنجليزى الأشهر لورد بايرون، ووريثة لقبه. وسوف يكتب بلنت بعد عودته إلى بريطانيا بعض أهم الكتب عن الثورة العرابية وأكثرها إنصافا لها ولعرابى، رغم بعض النقد لما وقعت فيه الثورة من أخطاء. فهو صاحب «التاريخ السرى للاحتلال الإنجليزى لمصر Secret History of the English Occupation of Egypt» عام 1907 و«فظائع العدالة تحت الحكم الإنجليزى فى مصر Atrocities of Justice under the English Rule in Egypt» عام 1908، كما كتب كتابا ثالثا عن «جوردون فى الخرطوم Gordon at Khartoum» عام 1911. فقد كان بلنت بسبب اعتناق أمه الكاثوليكية، ودراسته فى كلية القديسة مارى الكاثوليكية الشهيرة، شديد التعاطف مع القضية الأيرلندية، رغم أنه ينحدر من أكثر المناطق الإنجليزية إنجليزية، ألا وهى منطقة ساسكس فى جنوب شرق انجلترا. وبعد زواجه من الليدى آن عام 1868، والذى تضاعفت على إثره ثروته، بدء معها كما هى عادة مثقفى الأرستقراطية الأوروبية فى ذلك العصر فى الترحال واستكشاف العالم. فسافرا معا إلى إسبانيا والجزائر وواصلا الترحال حتى الهند مرورا بعدد من البلدان العربية. ولكن مصر وسوريا ثم صحارى نجد من بعدهما هى التى استأثرت بحبهما واهتمامهما، لولع الليدى آن بالخيول العربية. فبقيا فى القاهرة طويلا، وتعلما كلاهما اللغة العربية. ولكن ويلفريد بلنت كان هو الذى تفوق فيها وأتقنها، بل أخذ يترجم بعض الأشعار منها، راغبا فى أن تحقق بعض ترجماته من روائع الشعر العربى الشهرة الكبيرة التى حققتها ترجمة إدوارد فيتزجيرالد «1809-1883» الشهيرة لرباعيات الخيام. وأخذ بلنت فى نشر أشعاره وترجماته من الشعر العربى منذ 1875 تاريخ ظهور ديوانه الأول بانتظام، وحتى جمعت أعماله الشعرية فى مجلدين كبيرين عام 1914. ولم يقتصر اهتمامه على ترجمة الشعر العربى للإنجليزية فحسب، بل اهتم أيضا بدراسة الثقافة العربية والإسلام، ونشر كتابا عنهما هو «مستقبل الإسلام The Future of Islam» عام 1882 والذى كتبه فى أثناء إقامته فى مصر. فقد استقر بهما المقام فيها عام 1879 حيث اشتريا بها مزرعة فى الشيخ عبيد قرب القاهرة لتربية الخيول العربية الأصيلة، بل وتوريدها لإنجلترا حيث أسست فيها الليدى آن مزرعة خاصة لهذا الأمر، هى Crabbet Park فى مقاطعة ساسكس. لكن المهم هنا هو أن المقادير أتاحت لهما الالتقاء بأحمد عرابى فى أثناء تصاعد الزخم الوطنى الذى بلغ ذروته فى وقفة عابدين. وقد وقع حسب يومياته فى سحر شخصية أحمد عرابى، وتأثر بصدقه وإخلاصه فى السعى لتحقيق استقلال بلاده والتعبير عن صبواتها فى العدل والحرية. وهو الأمر الذى أشعل أيضا خيال زوجته الليدى آن هى الأخرى. حيث إنها وجدت نفسها تعيش من جديد بعض مغامرات جدها الشاعر الإنجليزى الأشهر جورج جوردون بايرون «George Gordon Byron 1788-1824» المعروف باسم اللورد بايرون، والذى ترجم عبد الرحمن بدوى أشعاره، خصوصا ديوانه الأشهر «أسفار تشايلد هارولد» فى مطلع خمسينيات القرن الماضى. فقد ذهب بايرون فى شبابه إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وأقام لفترة فى ألبانيا، وانتقل بعدها إلى اليونان، وشارك فى محاربة العثمانيين فى أثناء حرب الاستقلال اليونانية، وقضى نحبه وهو فى شرخ الشباب فيها. وقد ساعدها على الاقتراب بشكل وثيق من أسرة عرابى أمران: أولهما أن علاقة زوجها بلنت توطدت بأحمد عرابى بسرعة، فقد وجد فى بيته، الذى كان يتردد عليه فى ذلك الوقت أبرز أعلام اليقظة الوطنية المصرية من أعضاء الحزب الوطنى الحر مثل عبد الله النديم، ومحمد عبده، ومحمد المويلحى، ومحمود سامى البارودى وحسن الشريعى وغيرهم من الذين بلوروا بذور الحرية واليقظة الوطنية ورعوها، مناخا لا يختلف كثيرا عن ذلك الذى خلفه وراءه فى أشد الدوائر الثقافية استنارة فى إنجلترا. وثانيهما أن زوجة أحمد عرابى الأولى كانت امرأة متحضرة بمقاييس ذلك العصر، لأنها نشأت فى القصر الخديو، حيث كانت كريمة مرضعة إلهامى باشا، وأخت زوجة الخديو توفيق فى الرضاعة. تستطيع أن تحتفى بامرأة متعلمة مثلها وتستقطب اهتمامها. وسوف تحظى زوجة عرابى أيضا بصداقة الليدى جريجورى التى سيجىء ذكرها بعد قليل، وسوف يكون لها دور فى التدخل لإبقائها فى مصر وإنقاذها من النفى. ومع تطور أحداث الثورة ازداد اهتمام بلنت وزوجته بها، وقرر بلنت كمثقف حر وشاعر ورومانسى وقع فى غرام الصحراء العربية وسمو روح التصوف الإسلامى، الوقوف كلية إلى جانب عرابى وإلى جانب الموقف الأخلاقى الأعلى الذى يمثله، كمعبر عن صبوات شعب فى الاستقلال والحرية. وكانت دوائر المثقفين فى أوروبا وقتها تعج بالعداء للإمبراطورية العثمانية، والتعاطف مع مطامح الشعوب التى تسعى للتحرر من قبضة الاستبداد العثمانى وتخلفه. ألم يندفع لورد بايرون إلى الحرب إلى جانب اليونان ضد العثمانيين حتى أصبح أحد أبطال حرب الاستقلال اليونانية؟ وأحاله موته المبكر إلى أيقونة تحتذى. ولم يقتصر الأمر على الدوائر الثقافية، لأن الجدل بين الثقافة والسياسة يرهف من فاعلية كلاهما فيها على الدوام. وكان رئيس وزراء بريطانيا إبان عام الثورة العاصف هو وليام جلادستون (1809-1898) وهو من حزب الأحرار، وله تاريخ طويل فى تأييد حقوق الشعب والإصلاحات الاجتماعية والانتخابية أكسبه لقب «حبيب الشعب The People's William». وقد تولى الوزارة فى عام 1880 بعد بنيامين ديزرائيلى «1804-1881» الذى خيم شبحه، وحلمه الاستعمارى بالسيطرة على مصر، والذى دفعه مع البارون روتشيلد الصهيونى العتيد، لاقتناص فرصة بيع إسماعيل لأسهم مصر فى قناة السويس، واهتبالها. كان شبح دزرائيلى مهندس عملية شراء أسهم مصر فى شركة «قناة السويس»لبريطانيا، والداهية المدبر لخلع الخديو إسماعيل بعدها، حينما تجاوزت إصلاحاته السياسية ما اعتبره خطوطا حمراء، تفتح الطريق أمام الشعب المصرى ليكون له دور ملحوظ فى حكم بلاده، يخيم على وزارة جلادستون التالية ويصيب قراراتها بالتخبط والعداء لمصر. لكن جلادستون، الذى كان زعيما للمعارضة طوال السنوات الست الأخيرة من حكم إسماعيل، كان على وعى بأهمية الحركات الوطنية، حيث إن مهمته فى وزارته الأولى «1868-1874» كانت حسب قوله تهدئة الحركة الوطنية فى أيرلندا والسيطرة على تصاعد مشاعر الثورة فيها، مستخدما فى ذلك كل رأسماله الرمزى كإصلاحى عتيد ينتمى إلى حزب الأحرار الجديد وقتها. وقد واصل سمعته الإصلاحية التى نتج عنها تهدئة الأوضاع فى أيرلندا، ودفع التعويضات الضخمة لأمريكا (أكثر من 15 مليون دولار وهو مبلغ كبير فى ذلك الوقت) والمعروفة باسم «مطالب ألباما» عن دعم بريطانيا للانفصاليين فى أثناء الحرب الأهلية الأمريكية. لكنه سرعان ما خسر الانتخابات التالية عام 1874 والتى عادت ببنيامين دزرائيلى للحكم، وظل فى أثناء السنوات الست التالية معارضا لخطط التوسع الاستعمارى فى إفريقيا ولسياسات دزرائيلى الاستعمارية والمحافظة، ولم يعد مرة أخرى للسلطة إلا عام 1880، فأنفق عامه الأول فى تهدئة المشهد وإنهاء الحرب الإنجليزية الثانية فى أفغانستان، وإنهاء حرب البوير فى جنوب إفريقيا. ولكنه سرعان ما أمر فى العام التالى بضرب الإسكندرية فى 11 يونيو 1882. فهل يمكن أن نقرأ فى تلك المفارقات بين إنهاء الحرب فى أفغانستان، وبدايتها فى مصر شيئا مما يدور الآن، وقد حلت أمريكا محل بريطانيا فى الحالتين، وكأن التاريخ يعيد نفسه، وكأن إنهاء أمريكا للحرب فى أفغانستان هو من أجل تفرغها لإشعال حروب من نوع آخر فى مصر، وفى غيرها من بلدان المنطقة وبلدان الربيع العربى فيها خاصة، عبر ما يقوم به الإخوان الآن فى سيناء. تلك أسئلة لا بد أن نتأملها كى لا تفوتنا دروس التاريخ!