يعتبر أحمد عرابي من أكثر الشخصيات الوطنية في تاريخنا المعاصر, تعرضا لتشويه دوره ومكانته الوطنية ضمن ما حفلت به كثير من الكتابات المضللة من تشويه لخصائص الشخصية المصرية. وإضفاء صفات عليها لم تكن فيها, ووصف المصريين بأنهم في مختلف مراحلهم التاريخية كانوا مستسلمين منبطحين منصاعين لا يقومون ولا يصدون عن أنفسهم ما يمس كرامتهم الوطنية سواء كان ما يقال وما يكتب هو عن سوء قصد أم عن جهل. ومؤخرا كنت أعيد قراءة أوراق قديمة, استوقفتني فيها معلومات موثقة في أرشيف الدولة العثمانية, الذي يحوي الكثير جدا عن مصر, وما ان يجري فيها من أحداث خلال مئات السنين التي خضعت فيها للحكم العثماني. وكان ضمنه ما هو مسجل عن الحركة الوطنية لأحمد عرابي, والتي أسمتها كتابات التزييف هوجة عرابي, وأحداث صراعه مع الخديو توفيق وحملة الانجليز. هذه الوثائق والمكاتبات المتبادلة بين القاهرة واستنبول, تصور حركة عرابي بانها حركة وطنية, كانت لها أهداف سامية, ترمي للحيلولة دون اخضاع مصر للنفوذ البريطاني, ورفض الحكم الاستبدادي المتسلط للخديو توفيق المستند الي النفوذ الأجنبي, والعمل علي قيام حكم نيابي دستوري يحفظ للمصريين استقلالهم وكرامتهم, وليست كما قيل علي ألسنة البعض, حركة تمرد هوجاء. وقد قرأت بتمعن الدراسة التي كتبها حسن عدلي كبير مسئولي ارشيف الوطني في استنبول والتي تضمنها كتاب صادر في لندن عام1968 عن جامعة اوكسفورد بعنوان التغيير السياسي والاجتماعي في مصر الحديثة. والوثائق التي قد جمعت في حوالي140 ملفا, لكل منها عنوان مختلف, الكثير منها محفوظ في ارشيف قصر يلدز باستنبول, بالاضافة الي محفوظات الرسائل التي كانت متبادلة بين القاهرة واستنبول فيما بين السلطان عبدالمجيد وبين كل من الخديو توفيق, والخديو عباس حلمي الثاني, ومكاتبات بين السلطان وبين أحمد عرابي. وهذه الملفات التي تختص بمصر تغطي الشئون الخارجية والمسائل الاقتصادية وبعضها يتعلق بقضايا محددة مثل قناة السويس, أو ملف مسألة عرابي كما وصفت به. وعودة الي عرابي وثورته الوطنية نجد رسالة موقعة من أحمد عرابي الي السلطان عبد المجيد في أول أغسطس1882 يعلن فيها رفضه لنفوذ القوي الاجنبية في مصر, معلنا ان مصر يجب الا تسقط في يد الأجانب. ويقول عرابي في رسالته ان المشاكل التي تعاني منها مصر سببها سوء ادارة الخديو توفيق للبلاد. وانعدام كفاءته وقدراته علي الحكم ووضعه كل أمور البلاد في يد القنصل العام البريطاني وان هذا الوضع هو الذي يزيد من اطماع بريطانيا في ان تقوم بغزو مصر, وان خضوع الخديو توفيق للانجليز جعلهم قادرين علي ان يفعلوا بمصر أي شيء يريدونه وان اختيار المصريين له زعيما لهم كان بدافع انقاذهم من هذا الخطر ومن نظام يطارد الوطنيين بالسجن أو الإعدام. تقول الوثائق التي تحمل عنوان المسألة المصرية: ان العرابيين ارادوا عزل الخديو توفيق لخضوعه لنفوذ الانجليز, علي ان يحل محله حليم باشا. وبالرغم من عدم ظهور تأييد من الدولة العثمانية لعرابي الا ان حركة عرابي كانت حركة وطنية التف حولها الشعب المصري. ولما كان توفيق يعلم ان السلطان عبد المجيد متعاطف مع حليم باشا, فقد تجنب طلب دعم استنبول له ضد الحركة الوطنية للعرابيين, ولجأ الي القنصل العام البريطاني يستشيره ويأخذ بنصائحه في كيفية التعامل مع الحركة الوطنية التي يقودها عرابي. لم يكن عرابي وزملاؤه وحدهم في مواجهة الخديو والانجليز, بل كانوا يستندون الي تأييد شعبي علي مستوي الشارع, وعلي مستوي النخبة خاصة من علماء الأزهر, ووقتها بعث مفتي مصر الشيخ محمد عليش برسالة الي السلطان عبدالمجيد يحدثه فيها عن المسألة المصرية, ويصف حركة عرابي بأنها حركة وطنية, وقال أيضا في رسالته ان الخديو توفيق يفتقد أي شعبية بين المصريين. وقد ارسل السلطان عبدالمجيد سرا مبعوثه سعيد افندي لاستطلاع آراء العرابيين, لكنه لم يسانده وظل عرابي مستندا الي شعبه في الداخل. ومضت الأحداث الي اشتعال القتال بين جيش عرابي وبين القوات البريطانية التي تدخلت بطلب من الخديو توفيق, ثم هزيمة عرابي في معركة التل الكبير, ولم يغب عن النظر ادراك بريطانيا ان حركة عرابي كانت ثورة وطنية شعبية, وهو ما ظهر في رد فعلها سياسيا فور احتلالها لمصر, عندئذ كان لورد دوفرين سفير بريطانيا في استنبول ومبعوثها الدبلوماسي في القاهرة في الوقت نفسه هو المستشار السياسي للخديو, فيما يخص اعادة تشكيل نظام الحياة السياسة في مصر, وكانت ابرز نصائحه والتي أخذ بها الخديو عدم العودة للنظام النيابي الذي عرفته البلاد في فترة ادارة العرابيين للحكم ونبذ أفكاره عن الليبرالية والدستور, ووأد فكرة الديمقراطية لان هذه البلاد علي حد قوله لا تصلح أصلا لتنبت فيها الديمقراطية, وشهدت مصر حملة منظمة هدفها احداث انكسار نفسي في الروح الوطنية للمصريين من خلال مطاردات واعتقالات, وبطش بالناس, وتهميش للعناصر الوطنية. وحين برز دور مصطفي كامل في الحياة العامة, فقد كان محور هذا الدور هو ايقاظ الروح الوطنية للمصريين, وازالة اثار هذه الحملة التي استهدفت التدمير المعنوي للناس. وكان ما نجح فيه مصطفي كامل, هو الذي دفع المصريين للتحرك الجماعي في المدن والقري في ثورة19, التي قادها سعد زغلول. ومنذ هذا اليوم عام19 وحتي عام52 توالت علي مصر هبات وثورات لا تهدأ من أجل الاستقلال والحرية والحكم الديمقراطي, بلغت ذروة تضخمها في الاربعينيات, تجسدت في نشاطات نهضوية في السياسة والأدب, والفنون وكل شيء. ولم تكن مصر أبدا خاضعة مستسلمة كما يحلو للبعض ان يشيع. المزيد من مقالات عاطف الغمري