«إننا نقتل أنفسنا عندما نُضَيّق خياراتنا في الحياة» من الروح النضاليَّة للزعيم الهندي المُلهِم «المهاتما غاندي» .. ارتوت روح الزعيم الأسمر «نيلسون مانديلا» والتي استحق بها حب أفريقيا والعالم الحُر أجمع.. حتى ظهر مُلهم في مصر الذي نشأ وتربى على مبادئ وإخلاص هؤلاء الملهمين الراحلين في سبيل الحفاظ على الإنسانية.. فهم جميعاً يتبنون تلك الحكمة العظيمة، فنحن أمام رجل قد اتَّسعت خياراته فيما يخص قضيَّته الوطنيَّة، إلى أقصى من حدود كانت حول منصب له إلتزاماته وعليه قيودٍ تقف عائقاً بينه وبين تحقيق العدالة والمصالحة مع الجميع .. إنه «محمد البرادعي» رغم المعاناة لم يفكر «مانديلا» ولو لمرة واحدة بعد خروجه من السجن في الإنتقام .. بل علي العكس خرج الزعيم المناضل ليعطي درسا مذهلا في الغفران .. فهو الذي قال «إذا تصالحت مع عدوك فعليك أن تعمل معه، عندها يصبح صديقك» .. لذا كان من الطبيعي أن يكرس مانديلا حياته لكفاح الشعب الأفريقي ويحارب هيمنة البيض دون أن يحارب البيض أنفسهم، فلم يناهض العنصرية بإذكاء الحقد والكراهية .. وإنما فرق بين البيض وبين النزعة العنصرية التي تحكمهم, رافعا نموذج المجتمع الديمقراطي الحر حيث الجميع يعطون فرصا متعادلة ومنسجمة. كان وجود «محمد البرادعي» في منصبه هو ما جعل الجميع من خلال التوجهات العامة والميول الشخصية لرجال نظام ما بعد «30 يونيو» أنهم ينتوون أن يبيدوا كل خطايا الأنظمة العفنة السابقة من دون إقصاء أو إنتقام سواء من النظام الإخواني السابق أو النظام المباركي الأسبق .. مستعينا بالكفاءات والعقلاء في هذا البلد حتى «وإن كانوا خصوماً سياسيين لهم بشكل حضاري» وفي تثبيت مباديء وقوانين وممارسات حكم يقوم على أسس ديمقراطية تكون العدالة الإنتقالية والمصالحة الوطنية هي الأساس التي يضمن بناء دولة قوية متماسكة يستحيل هدمها ببساطة.. إلا أن تلك الأحلام تبددت وظهرت نوايا رجال هذا النظام الذي أهدر كل معاني الإنسانية وقرر الإنتقام من دون رحمة.. دون تعلم من دروس الماضي البعيد والقريب. بدأت مباحثات «كوديسا» أو «اتفاقية إرساء الديمقراطية في جنوب أفريقيا في ديسمبر 1991 بمركز جوهانسبرغ التجارة العالمية، وحضره 228 مندوبا من 19 حزباً سياسياً ومنظمات دولية وممثلين للدول الأقوى في العالم والضامنة لنتائج المؤتمر وأليات تنفيذه . وترأس «سيريل رامافوزا» وفد حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وبقي «مانديلا» شخصية رئيسية، وبعد أن استخدم «دي كليرك» كلمته الختامية لإدانة العنف من جانب حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، جاء دور مانديلا في الكلمة ليندد بدي كليرك ك"رئيس لنظام الأقلية التي فقدت مصداقيتها وشرعيتها، وهيمن الحزب الوطني وحزب المؤتمر الوطني على المفاوضات التي حققت بعض التقدم. عُقدت الجولة الثانية من المفاوضات في مايو 1992، وفيها أصر «دي كليرك» على أن مرحلة ما بعد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا يجب أن تستخدم نظاما اتحاديا برئاسة دورية لضمان حماية الأقليات العرقية، فاعترض «مانديلا» على هذا الأمر، مطالبا بنظام موحد حكم فيه للأغلبية .. حتى جاءت الموافقة بشرط أن يتم إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين اللذين لم يتورطوا في إرتكاب جرائم، واتفق الثنائي على دستور انتقالي وضمان الفصل بين السلطات وإنشاء محكمة دستورية، بما في ذلك مشروع قانون للحقوق على طراز الولاياتالمتحدة، وأيضا تقسيم البلاد إلى تسع محافظات. كما تنازل كل من «دي كليرك» عن رغبته في الفيدرالية و«مانديلا» عن حكومة واحدة. بعد أن بدأ البرادعي طريق العدالة الإنتقالية والمصالحة الوطنية في مصر.. لم يكن يبقى لتحقيقها سوى الإخلاص وصدق النوايا من جميع الأنظمة السابقة والنظام المؤقت الحالي.. وأن يؤمنوا صدقاً ويتيقنوا حقاً .. قولاً وفعلاً أن مصر لن تنهض إلا إذا أصبحت فعلاً بلا عداءات وطنية ولكن فقط بخصوم سياسيين.. فالقيادة الجديدة للدولة كان يجب عليها تحاول بشتى الطرق تتجنب أي أعمال قمع ضد جماعة الإخوان المسلمين أو أي من أنصارهم من الإسلاميين المعتصمين في رابعة العدوية أن ذاك.. كما حدث مع القواعد الشعبية لنظام مبارك فلم يطلب أحد القضاء عليهم وإقصائهم بل الجميع كانوا يتحدثوا عن ضرورة فرض قوانين العدالة الإنتقالية على الجميع .. وهذا ما كان يحاول أن يفعله «محمد البرادعي» بعد 30 يونيو ، فالقسوة والشدة والقمع ليس حلا للازمات السياسية، وكان يجب علينا أن نحقق الإدماج الاجتماعي والاستقرار السياسي، فهذا كان هو الأهم .. إلا أن معظم من كانوا أعمدة نظام مبارك «الفلول» وقواعدهم الشعبية كانت ترفض هذا الخيار من أساسه ودفعوا الدولة إلى مذبحة تقضي على معتصمي نظام الإخوان السابق وقواعدهم في «رابعة والنهضة» أملاً في أن يعودوا للسيطرة على الدولة وحدهم كما كان الحال في 24 يناير.. وأصبح البرادعي العدو الأول لهم فهو الذي كان يقف حائلاً بينهم وبين ما يردونه .. ووافق على الجلوس وقبول الإقتراحات العقلانية من الأطراف الداخلية والخارجية للوساطة بين الدولة وقيادات الجماعة «وذلك مع الحفاظ على السيادة للقرار المصري» أملاً في خروج من هذا المأزق وتحقيق العدالةً الإنتقالية بالحل السلمي مما يمهد الطريق للمصالحة الوطنية.. فالعنف لن ينجوا منه أحد سواء كان ضحية أو جلاد .. وإذا فشلنا في الحل السلمي كان من الممكن أن نضطر أسفين لحلٍ أخر شرط إستنفاذ كل السبل والوسائل السلمية.. لكن النظام إختار الحل الأخير بقسوة قبل أن يفشل الحل الأول. البرادعي كان يرى كما يرى شباب الثورة.. أن العواطف والمشاعر في مصر مختلطة، فكان فهناك الكثير من التعاطف مع الرئيس المعزول «محمد مرسي» وأيضا المزيد من الغضب، ولكن كان ينبغي أن تعلم قبول وجهات النظر المختلفة للمرة الأولى، وكان هذا هو السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار، وما كان يجب علينا هو مساعدة الرجل في التأكيد علي وقف العنف ونبذه من جميع الأطراف، وأنه كان من الضروري الإستمرار في الحوار مع جماعة الإخوان المسلمين ومحاولة إقناعهم بأن «محمد مرسي» فشل في إدارة البلاد لا يعني أننا سنقصي جماعة الإخوان من المشهد السياسي، ولكن ينبغي الاستمرار لتكون جزءا من العملية الديمقراطية وأن تشارك في صياغة الدستور وكذلك الانتخابات البرلمانية والرئاسية. الرجل العجوز بالقوة الساحرة المنطلقة من نقاء الضمير، ورسول ثورة لا يمكن تفاديها لحظة غضب كل الأنظمة السابقة والحالية عليه، وبعدما كان حالة فريدة من رجال السياسة لا تتحمل توافقات مصر في عصر قام كله على تقديس المتوسط. الوسط له قيمة وتقدير، والنجاح للمتوسط والأقل كفاءة، لا إبداعات خارقة، ولا خروج عن حدود يرسمها متوسط الفكر .. يجب أن يعود مرة أخرى بهذه المصالحة كي ننجوا سوياً قبل أن نغرق ونحن على قاب قوسين أو أدنى من الإستقرار في قاع بحر الفتنة الهالك. «محمد البرادعي» مثلما إستطاع أن يقود المعارضة في عصري «مبارك ومرسي» كاسراً كل القيود التقليدية للمعارضة التي صنعها «مبارك» وشكلها كما يريد، وإستطاع جمع شتات الفرقاء من المعارضة في جبهة الإنقاذ الوطني ضد «مرسي» وإعلانه الدستوري وحكومتة التي فشلت في حل كل قضايا الوطن وضد الدستور الذي أصدرته جماعة الإخوان حالمين أن يكونوا «الأمر الواقع» لهذا البلد، ويَرِثون مكانا يستطيعون به إعادة تفصيل الدولة على مقاسه .. يستطيع أن يقود الشباب مرة أخرى خارج إطار الدولة لفرض المصالحة على الجميع قبل أن تحكم على نوايا «محمد البرادعي» وغرضه من المصالحة مع الجميع.. إسأل نفسك أولاً.. ماذا لو فشل مانديلا واستسلم لفكرة الإنتقام من مجتمع البيض التي كانت تسيطر على مجتمع السود في جنوب أفريقيا وقتها ؟ في النهاية رحل نيلسون مانديلا عن عالمنا لتخسر الإنسانية أحد أهم هؤلاء الذين حافظوا عليها في أحلك الأوقات.. تاركاً خلفه تلامذته الذين حملوا رسالته إلى العالم أجمع ليكون للإنسانية حماة في كل الأوطان.. فياليت وطني يحافظ على ما تبقى من إنسانية في زمن صناعة الكراهية.