تتفاقم أزمة الخلاف بين الهيئات القضائية بسبب اختصاصات كل منها فى الدستور الجديد يومًا بعد الآخر، ففى الوقت الذى يبدو فيه أن الأزمة قد تقترب من الحل بعد لقاء الرئيس المؤقت «عدلى منصور» مع رؤساء الهيئات القضائية نفاجأ بأن اللقاء لم يطفئ نار الصراع ما بين أبناء البيت القضائى الواحد. وتوالت الجمعيات العمومية والمؤتمرات الصحفية لمستشارى الهيئات القضائية، مجلس الدولة وهيئة قضايا الدولة وهيئة النيابة الإدارية وحيث إن لجنة الخبراء العشرة المشكلة بقرار من رئيس الجمهورية عندما تصدت لمواد السلطة القضائية أبقت على نص مجلس الدولة كما هو، وألغت فى نفس الوقت الكثير من الاختصاصات التى اكتسبتها هيئتا قضايا الدولة والنيابة الإدارية فى دستور 2012 والتى تم النص عليهما بالدستور المعطل تحقيقا للعدالة الناجزة، كما أن النيابة الإدارية طالبت بالتمسك بما انتهى إليه لجنة نظام الحكم بإنشاء قضاء تأديبى وهو ما رفضه مجلس الدولة، معتبرا إياه سَحْبًا من اختصاصاته، ولعله أصبح من الضرورى أن نجعل الصالح العام هو الهدف الأسمى لوضع دستور بلدنا الحبيب مصر، خصوصا فى ما يتعلق بباب السلطة القضائية، تحقيقا للعدالة للمواطنين. ولئن كان استقلال القضاء مطلوبًا فإنه يبقى هدفًا ثانويًّا بالنسبة إلى الهدف الرئيسى، وهو تحقيق العدل، فاستقلال القضاء ليس هدفًا بقدر ما هو وسيلة من وسائل الوصول إلى الهدف المنشود، وهو إقامة العدل، ذلك الركن الركين فى بناء الأمة ونهضة الشعوب، ولعل أى شعب يسوء سلوكه عندما يرى أن القانون مطاط والعدالة ليست بالمنظومة المتكاملة لتفعيل القانون، وفى سبيل ذلك جاءت المادة (179) من الدستور المعطل التى نصت على أن:- (هيئة قضايا الدولة هيئة قضائية مستقلة تتولى الادعاء المدنى العام والنيابة القانونية عن الدولة فى المنازعات والرقابة الفنية على إدارات الشؤون القانونية فى الجهاز الإدارى للدولة، وتختص بإعداد عقود تسوية المنازعات التى تكون الدولة طرفًا فيها، وذلك على النحو الذى ينظمه القانون، ويحدد القانون اختصاصاتها الأخرى ويكون لأعضائها الضمانات والحقوق والواجبات المقررة لأعضاء السلطة القضائية). ولعل هذا النص وما يحققه للمواطن المصرى من عدالة ناجزة وعلاج لبطء التقاضى بجانب القضاء على الفساد والاعتداء على المال العام الذى هو مال الشعب بأكمله، ولعله قد آن الأوان للرجوع إلى ما نصّت عليه المادة الأولى من القانون رقم واحد لسنة 1923، حيث نصّت على أنه:- (تختص قضايا الحكومة «قضايا الدولة حاليا» بأن تصدِر فتاوى مبنية على الأسباب القانونية المحضة لمن يستفتيها من الوزارات والمصالح بشأن وثائق الالتزامات والعقود، وأن تضع فى صيغة قانونية الوثائق والعقود المذكورة). ولعل التاريخ هو ما جاء بالقانون رقم 112 لسنة 1946 والذى أنشئ مجلس الدولة من رحِم هيئة قضايا الدولة وذلك بصدور القانون رقم 113 لسنة 1946، والذى ألغى اختصاص قضايا الحكومة بالفتوى والتشريع والعقود ليعهد بهما إلى مجلس الدولة ولم يعترض وقتها مستشارو قضايا الحكومة من أجل الصالح العام لمصر، واليوم عندما يطلب مستشارو قضايا الدولة استعادة حقوقهم بالفتوى والتشريع وإعداد العقود ومراجعتها تأسيسًا على أن تلك الأعمال هى الأصيلة للهيئة القضائية التى تنوب عن الجهات الإدارية، وهى ما يجب أن يلتفت إليه أعضاء لجنة الخمسين المعدِّلة للدستور، بجانب قاعدة أن من يفتى يدافع عن فتواه بوصفه من يمثل الجهات الإدارية فكيف يكون القاضى بمجلس الدولة مفتيًا للسلطة التنفيذية وكاتبا للعقود التى تقدمها الدولة، ثم يجلس على منصة القضاء ينظر المنازعات المتعلقة بهذه العقود والفتاوى، وهو أمر يتنافى مع الواقع والقانون والعرف ويتعين أن يتفرغ قضاة مجلس الدولة الأجلَّاء للفصل فى المنازعات الإدارية، إذ إن مشاركتهم فى عمل جهات الإدارة سواء بالإفتاء أو مراجعة العقود أو مراجعة صياغة التشريعات يخلق نوعًا من أسباب عدم الصلاحية للفصل فى تلك المنازعات، وهو ذات ما قرره قانون المرافعات بنص المادة (146) التى حددت عدم صلاحية القاضى لنظر الدعوى ومن هنا حال كونه يصبح خصما وحكما فى نفس الوقت فى فتواه وتشريعاته. ويؤكد المستشار أحمد عاشور أن التاريخ سيكتب للجنة التعديلات الدستورية أنها قد قامت بإعلاء مصلحة الدولة ووحدت الصف للوصول بدولتنا إلى بر الأمن والأمان فى ظل عدالة ناجزة وليكتب التاريخ لها أنها لم تنظر لأية مصالح شخصية أو تغليب لجهة قضائية على أخرى، فجميع مقدَّرات ومخصصات السلطة والهيئات القضائية هى ملك للشعب بأكمله وتتعاقب عليه الأجيال القضائية، وليست دائمة لأحد معين أو لشخصية بعينها، والمناصب القضائية ليست مقصورة على شاغليها الحاليين، ولكن تحكمها الأقدميات والسن، وتتغير بمرور الأزمنه والعصور، والقاضى عندما يصدر حكمه فإنه يكتب بمقدمته: باسم الشعب، وذلك ما يوجب عليه أنه عندما يتحدث عن أمر يتعلق بدستور مصر فيجب عليه أن يُغلب مصلحة الشعب ومصر فوق مصلحته وأهوائه وميوله الشخصية، خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بتحقيق عدالة ناجزة هى مُبتغَى كل فرد من أفراد الشعب المصرى ويجب أن لا يُحاك بأبناء البيت القضائى الواحد وجرّهم لصراعات داخلية، خصوصا أن القضاء ورجاله كانوا وما زالوا وسيظلون هم خلفاء الله فى أرضه، لتحقيق العدل وإعلاء ميزان الحق فى ظل ثقافة الشعب المصرى والتى تبلورت فى رؤيته لقاضيه الطبيعى، يقف بجواره ويحكمه بميزان العدل، لا سلطان عليه إلا ضميره، فالشعب المصرى هو المالك والمحتكر لكل المقدرات والمخصصات بالدولة، ولولاه ما رأينا فجر ثورة 25 يناير المجيدة. المستشار بهيئة قضايا الدولة بقنا