رأى عدد كبير من دارسى النظام الدولى أن انتهاء الحرب الباردة -والذى يؤرخ له البعض بشهر يونيو عام 1989، عندما ترك الاتحاد السوفييتى الحكومة الشيوعية فى بولندا تسقط دون تدخل- مثلت نهاية للنظام العالمى الذى استقر منذ عام 1945، وقام على القطبية الثنائية وشهد صراعا أيديولوجيا حادا بين قوتين عظميين انتهى بانتصار التحالف الغربى. وإذا كان الباحثون قد اتفقوا على انتهاء النظام العالمى الذى ظهر بعد الحرب العالمية الثانية بفعل اختفاء حلف وارسو ثم تفكك الاتحاد السوفييتى، فإنهم اختلفوا فى توصيف ماهية النظام الدولى الجديد، فقد ذهب البعض إلى القول بأن النظام الدولى قد أصبح أحادى القطبية، فى حين ذهب آخرون إلى القول بأنه أصبح متعدد الأقطاب تتوازن فيه خمس قوى على الأقل هى الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى واليابان والصين وروسيا الاتحادية. وذهب فريق ثالث إلى القول بأن النظام الراهن لا يعدو أن يكون مرحلة انتقالية تفصل ما بين سقوط النظام القديم ثنائى القطبية وبروز هياكل النظام الجديد الذى لم تتشكل ملامحه بعد وإن كانت الأوضاع الراهنة ترجح أنه سيكون نظاما متعدد الأقطاب، فالولاياتالمتحدة هى الدولة الوحيدة التى تتمتع بالقدرة التى تمكنها من القيام بدور حاسم فى أى صراع تختار أن تشارك فيه فى أى مكان من العالم، وتستطيع -إذا أرادت- استخدام عناصر قوتها المختلفة لإرساء قواعد النظام العالمى وتنفيذها. ويرى أنصار هذا الاتجاه أن ما حدث فى حرب الخليج الثانية يمثل نموذجا لهذه القدرة، حيث تمكنت الولاياتالمتحدة من حشد التأييد الدولى -فى مجلس الأمن- ضد الاحتلال العراقى للكويت، وشكلت ائتلافا عسكريا ضخما تحت قيادتها تولى العمل العسكرى ضد العراق. بل إنها نجحت فى إظهار العمل ضد العراق على أنه بداية لوضع أسس نظام عالمى جديد، ذلك المصطلح الذى استخدمه الرئيس الأمريكى -آنذاك- جورج بوش لأول مرة أمام الاجتماع المشترك لمجلسى الكونجرس فى سبتمبر عام 1990، وعاد مرة أخرى ليصف بدء عمليات عاصفة الصحراء ضد العراق على أنها بداية تشكيل هذا النظام. هذا فى حين أن التحرك الأمريكى فى جوهره جاء وليد إدراك القيادة الأمريكية لما يمثله الاحتلال العراقى للكويت من تهديد للمصالح الحيوية الأمريكية، الأمر الذى استدعى التدخل على غرار ما حدث فى كوريا وفيتنام وأنجولا وتشيلى وجرينادا وبنما، فما حدث فى الخليج عامى 1990 و1991 لا يختلف عن هذه السوابق من حيث الدوافع. وهكذا يبدو واضحا أن أنصار هذه الرؤية تأثروا بما حدث فى أزمة وحرب الخليج الثانية عامى 1990 و1991، سواء من حيث التوظيف الأمريكى لمفهوم «النظام العالمى الجديد»، أو فى قدرة الولاياتالمتحدة على تحقيق وتنفيذ ما أرادت. وهناك تيار أعطى دورا أكبر للعناصر الاقتصادية والثقافية، ومن ثم رأوا أن النظام العالمى بعد الحرب الباردة تنتفى فيه إمكانية سيطرة دولة واحدة على مجمل التفاعلات الدولية، ومن ثم فالنظام أقرب إلى التعددية القطبية منه إلى القطبية الواحدة، مع تأكيد اختلاف هيكل التعددية الراهن عن ذلك الذى ساد فى ظل نظام ميزان القوة فى القرن التاسع عشر. واعتمدوا فى هذه الرؤية على التفرقة بين القدرة «Capability» بمعنى عناصر القوة وبين النفوذ «Influence» بمعنى القدرة على التأثير على سلوك الآخرين. وقد عمدوا إلى بيان حدود القوة العسكرية فى توجيه التفاعلات الدولية، وتعدد مصادر القوة التى يجب أن تمتلكها الدولة لتتمتع بدور القطب المسيطر على التفاعلات الدولية، وفى ظل ازدياد ظاهرة الاعتماد المتبادل، فإن احتمال استخدام القدرات العسكرية لتوجيه التفاعلات الدولية أصبح احتمالا محدودا، وفى نطاق عدد محدود من القضايا، كما أن هناك أنواعا من القدرات يجب أن تتمتع بها الدولة إذا كان لها أن تسيطر على مجرى الأحداث الدولية، فإضافة إلى القدرات العسكرية، هناك القدرات الاقتصادية والتكنولوجية وقدرات غير مادية فى مقدمتها القدرة الثقافية. ومن جانبه أكد جوزيف ناى أن القدرات المادية ليست الوحيدة التى يمكن أن تتمتع بها الدول، وأشار إلى ما أطلق عليه القوة الجاذبة أو الملهمة Captive Power التى تتمثل فى جاذبية أفكار الدولة والتى تمكنها من التأثير على الأولويات السياسية للوحدات الأخرى، وممارسة مثل هذا النوع من التأثير يعتمد على مصادر غير مادية للقوة مثل الثقافة، والأيديولوجيا والمؤسسات.