لا ينبغى أن نخدع أنفسنا بحقيقة الصراع الذى نخوضه الآن، وعلينا أن ندرك جيدًا أن القرار الأمريكى بالتعليق الجزئى للمعونة ليس إلا خطوة على طريق التصعيد، وأن علينا أن نتحسب لخطوات أخرى يحكمها موقف أساسى للإدارة الأمريكية هو -رغم أى رتوش للتجميل- موقف العداء لإرادة شعب مصر التى تجلت فى 30 يونيو، وموقف الغضب من سقوط الحليف الإخوانى الذى راهنت عليه واشنطن، وموقف الرفض لمصر المستقلة صاحبة قرارها بعد سنوات من التبعية أفقدت مصر دورها ومكانتها. بالطبع نحن لا نريد الصراع مع القوى الكبرى فى العالم حتى الآن على الأقل.. ولكن علينا أن ندرك أن واشنطن لن تنسى أننا أجهضنا مخططاتها فى المنطقة كلها، وأن الإدارة الأمريكية لن تغفر أننا فضحنا إدارتها البائسة لصراعات المنطقة حين بنت خططها على تسليم نصف المنطقة لإيران ونصفها الآخر لإرهاب يرفع زورًا وبهتانًا راية الإسلام!! قد تكون مصادفة أن يأتى قرار التعليق الجزئى للمعونة بعد احتفال لافت فى مصر بذكرى رحيل عبد الناصر، وبعد احتفال رائع بمرور أربعين عامًا على انتصار أكتوبر، لكنها ليست مصادفة أن يترافق القرار مع الحديث عن مخاوف أمريكية من استعادة تجربة عبد الناصر فى مصر، مع المخاوف الأخرى من عودة روح أكتوبر بعد أعوام طويلة وجهد كبير بذلته واشنطن لحصار نتائجها ومواجهة تأثيراتها على المنطقة. الخطوات التى تتخذها واشنطن إزاءنا «بما فيها الخطوة الأخيرة بالتعليق الجزئى للمعونة» تحكمها حقيقة أساسية عبر عنها الرئىس الأمريكى أوباما حين أكد أن العلاقات المصرية-الأمريكية «بعد 30 يونيو» لن تعود أبدًا كما كانت من قبل!! هذه هى «البوصلة» التى ينبغى أن نحسب حساباتنا السياسية عليها، صحيح أن الخطوة الأمريكية الخاصة بالمعونة تعنى أن واشنطن تدرك أن فشل الإخوان المزرى قد أفقدهم أى دور، وأن جهود التوابع والذيول من أنقرة إلى الدوحة لم تستطع شيئًا إزاء وحدة شعب مصر وصمود جيشها، لكن الصحيح أيضًا أن قرار المواجهة الصريحة من جانب واشنطن هو قرار لا ينبغى الاستهانة به أو قراءته على غير وجهه الصحيح! تجربتنا مع واشنطن فى هذا الصدد أليمة، لا يريدون علاقة صداقة وتعاون بل علاقة تبعية. عندما قامت ثورة يوليو سعت بكل الوسائل إلى صداقة أمريكا، فماذا كانت النتيجة؟ رفضوا إمدادنا بالأسلحة لنكون تحت رحمة إسرائيل، أرادوا وراثة الاستعمار القديم بالهيمنة على المنطقة، حاولوا فرض الأحلاف العسكرية علينا، قاوموا أى محاولة لبناء مصر، وحاولوا بكل الطرق إبعادها عن أمتها العربية. فى كل هذه المعارك لم تكن مصر هى الساعية للصدام، ولم تكن تبغى إلا الحفاظ على استقلالها وبناء دولتها وحماية حدودها. ولعل أوضح صورة لذلك ما حدث فى معركة تمويل السد العالى، لم تكن مصر تهدد أحدًا حين قررت بناء السد وسعت لتوفير التمويل اللازم له من البنك الدولى الذى وافق فى البداية، ثم تراجع بقرار أمريكى. كانت واشنطن قد حاولت فرض شروط شديدة الوطأة لتمرير التمويل من بينها إخضاع الميزانية المصرية لرقابة البنك!! وكانت مصر ترفض ذلك والمفاوضات مستمرة حتى أدرك عبد الناصر أن قرار سحب التمويل قد اتخذ مسبقًا، وهنا استدعى سفير مصر فى واشنطن ليطلب منه إبلاغ الإدارة الأمريكية بقبول كل شروطها، وكم كانت دهشة السفير حين ذهب لإبلاغ وزير الخارجية الأمريكى جون فوستر دالاس بالقرار متصورًا أنه سيسعد بذلك، فإذا به يبلغه بكل صلافة أن مصر لن تحصل على التمويل المطلوب!! كانت واشنطن تتصور أنها وجهت ضربة قاصمة للنظام فى مصر، ولم تكن تدرى أنها ستتلقى صفعة العمر حين أصدر عبد الناصر قرار تأميم قناة السويس، ليتغير تاريخ مصر والمنطقة والعالم كله. الآن.. تبدأ واشنطن مرحلة جديدة من ممارسة الضغوط انتقامًا من ثورة شعبنا فى 30 يونيو، وخوفًا من عودة مصر صاحبة قرارها المستقل، الرد الطبيعى الآن هو الاستغناء -من جانبنا- عن معونة تعرف واشنطن جيدًا أنها المستفيد الأكبر منها، لكن علينا أن ندرك أننا ما زلنا فى بداية هذه المرحلة من الصراع، وأن نكون جاهزين للرد كما فعلنا ذات يوم حين استعدنا قناة السويس.