كل عام وأنتم بخير.. هذه السطور هروبا فى العيد (كالعادة) من الهموم الوطنية المباشرة إلى الإبداع وقد اخترت شيئًا من بستانه أظنه، مع بعض التعديل والتصرف، مناسبًا لحال عصابة الشر الفاشية السرية التى ما زلنا نتلظى بنار حقدها وشرورها وإجرامها المتجاوز كل الحدود، والجوال حاليا فى طرقنا وشوارعنا.. فأما الحال التى أقصدها فهى حبسة أتباع هذه العصابة فى مغارتهم المظلمة حتى انحطت قواهم العقلية وتشوهت فطرتهم الإنسانية وانحرفت أخلاقهم وتسممت أرواحهم. لقد أبدع الكاتب والفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر فى خمسينيات القرن الماضى واحدًا من أجمل وأعمق -وربما أعقد- نصوصه الأدبية، مسرحية «سجناء ألطونا»، هؤلاء الذين سجنوا أنفسهم طواعية ولكن بدافع من ضمير استيقظ، بينما العصابة الإخوانية تسجن نفسها بنفسها فى كهف الجريمة وانعدام الضمير. مسرحية «سجناء ألطونا» عُرضت لأول مرة على مسرح «الرينيسانس» الباريسى فى شهر سبتمبر عام 1959، وهى تعالج دراميا قصة انتحار أحد كبار رجال الصناعة الألمان فون جيرلاش وابنه فيرنر. فى المسرحية يبدو فيرنر شابًّا مثاليًّا يحب بلده ويحب أباه كثيرا حتى إنه يقلده فى سلوكه وحركاته ويكاد يتماهى فى شخصيته، لكن الابن سرعان ما يخوض وهو ما زال غضًّا يافعا سلسلة متصلة من التجارب التى تصيبه بخيبة أمل وإحساس عميق بالفشل مما يدفعه إلى الانضمام إلى الجيش فيصبح واحدا من ضباط هتلر، وفيما هو يبحث عن الموت فإن الموت لا يدركه أبدا على جبهات الحرب، ويظل حيًّا تأتيه الترقيات وتتراكم على صدره الأوسمة والنياشين حتى تنتهى الحرب بهزيمة ألمانيا النازية ويعود هو من الجبهة الروسية كسيرا مدحورا وذليلا، ويقرر حبس نفسه فى حجرة بقصر أبيه، «قصر ألطونا»، إلى أن يستحضر هو الموت وينتحر بعدما أمضى 13 سنة متصلة وحيدا فى زنزانته الاختيارية إلا من جهاز تسجيل يبثه آراءه ودفوعه ويحادث السقف مخاطبا الأجيال القادمة وحشرة العقرب ويُسمِعهم طول الوقت دفاعا مجيدا عن الإنسانية. غير أن الأمور ليست بهذه البساطة، فقد قام سارتر بتعقيد الموضوع وتعميقه باستخدام حيل وتقنيات درامية استعار بعضها من صناع السينما، فراح يتلاعب بالأحداث يقدم بعضها ويؤخر البعض الآخر بادئًا بمشهد اجتماع عائلى يعلن فيه الأب أمام ابنته لينى وابنه فيرنر وزوجة هذا الأخير جوهانا، خبرًا كاذبًا ملخصه أنه مصاب بمرض السرطان وسيموت خلال مدة لا تجاوز 6 أشهُر، ومن ثم يطلب من ابنه أن يقسم على الإنجيل أن لا يغادر قصر ألطونا أبدًا.. بيد أن جوهانا لا تظهر اقتناعا بأن هذا المرض المزعوم هو الدافع الحقيقى للسجن الطوعى الذى فرضه زوجها على نفسه، وتظل تبحث وتنقّب حتى تكتشف أن فيرنر يوم عاد من الجبهة وجد قصر أبيه مسكونا بقوات أمريكية وأن ضابطًا من هذه القوات حاول اغتصاب أخته وتصدى فيرنر له وضربه بعنف، وبسبب هذه الحادثة حكمت عليه محكمة عسكرية أمريكية بالنفى خارج ألمانيا، لكنه تَملَّص من تنفيذ الحكم بأن سجن نفسه فى البيت بينما أشاع أبوه أن ابنه رحل فعلًا عن البلاد ومات غريبًا فى الأرجنتين. بدورها فإن هذه القصة، سرعان ما يكتشف المشاهد أو القارئ للمسرحية أنها ليست هى كل الحقيقة، بل هناك حقائق أخرى أخطر وأهم، تنكشف واحدة منها عندما تخفت أضواء المسرح ويرى الجالسون فى قاعة العرض بالكاد مشهدًا من الماضى (فلاش باك) يجمع الأب والابن، ومن الحوار الذى دار بينهما نفهم أن الأب كان قد منح الحكومة النازية قطعة أرض من أملاكه أقيم عليها معسكر من معسكرات الاعتقال، وقد شعر فيرنر بصدمة هائلة حينما شاهد منظر المعتقلين البؤساء، ويحزن جدا لأبيه الذى شارك فى هذه الجريمة وسمح بإقامة معتقل فى أرض يملكها، ويزداد شعور فيرنر بوجع الضمير عندما يعثر يوما على واحد من هؤلاء السجناء المساكين هاربا ويجدها فرصة للتكفير عن ذنب أبيه، فيساعد هذا المسجون على الاختفاء فى قصر ألطونا، ويعرف الأب القصة ويعد ابنه بتهريب الرجل خارج ألمانيا، ثم يحادث واحدًا من القادة النازيين طالبا منه إنقاذ فيرنر من الجستابو (جهاز المخابرات النازية)، لكن الذى يحدث أن رجال هذا الجهاز يداهمون القصر ويقتلون المعتقل الهارب أمام عينَى الابن، لذلك تفشل محاولة فيرنر التكفير عن خطأ أبيه فيقرر ترك البيت فورا وينضمّ إلى الجيش باحثا عن راحة الموت التى لن يفوز بها فى الجبهة، كما أسلفنا. لم ينتهِ مسلسل الحقائق الواقفة خلف واقعة سجن فرانز لنفسه، بل تتكشف حقائق أخرى أشد هولا وإثارة فيما تتابع فصول ومشاهد المسرحية.. لكن المساحة تآكلت، فأستأذن القارئ الكريم أن أكملها بعد غد، إن شاء الله.