عزيزي القارئ.. تستطيع لو أردت ومجانا تغيير العنوان الذي أعلي هذه السطور وتجعله «ذباب سارتر وذبابنا»، فقد يكون الحزن و«الحداد» شديدًا وصعبًا علي حضرتك أو لعلك تراه جاثمًا وموجودًا فعلا بما لا يسمح بأي زيادة. علي كل حال أشرنا أمس إلي أن الفيلسوف والمسرحي الفرنسي الأشهر جان بول سارتر كان واحدًا من جيش المبدعين الكبار المعاصرين الذين عالجوا تراجيديا الأسطورة اليونانية القديمة التي دارت وقائعها وإشكالياتها حول مقتل الملك «أجاممنون» بمؤامرة دنيئة رتبتها زوجته «كليمنسترا» ونفذها عشيقها «إيجست» ليصبح بعد الجريمة خليفة الملك المغدور في فراشه وفي الحكم كذلك فارضًا هو وعشيقته علي ابني ضحيتهما، «إليكترا» وشقيقها «أوريست»، العيش في عذاب وتيه وغربة مادية ومعنوية مضنية وقاسية، فبينما كابد الابن النفي القسري خارج مملكة «آرجوس» عاشت الابنة «إليكترا» في وكر الخيانة وبقيت تعاني مع الشعب عسف وطغيان قاتل والدها. ويجمع نقاد وشراح أعمال سارتر علي أنه تعمد اختيار الأسطورة اليونانية القديمة تلك موضوعًا لمسرحيته الأولي «الذباب» حتي يتمكن من صياغة رسالة فنية تحريضية يساهم بها في مقاومة الاحتلال الألماني النازي لبلاده تطبيقا لمبدأ «مسئولية والتزام المبدع» الذي كان نجم الفكر الفرنسي المعاصر من أشد أنصاره، فقد كتب سارتر هذه المسرحية وتمكن من عرضها عرضًا عامًا في عام 1943، أي في عز اشتداد وطأة الاحتلال واشتعال المقاومة ضده حتي إن كثيرين يتساءلون للآن: كيف مرت هذه المسرحية من تحت عين الرقيب وأفلتت من قيوده الصارمة علي كل أشكال الإبداع؟ ويذهب البعض إلي أن وجود شخصية أدبية بقامة وقيمة «جان جيرودو» آنذاك علي رأس جهاز الرقابة علي المطبوعات (رغم انفصاله عن الجهاز المعني بإجازة العروض الفنية) ربما ساعد في تمرير مسرحية «الذباب» لاسيما أن سارتر حسب هؤلاء البعض ملأها باقتباسات واضحة من مسرحية عالجت (كما قلنا أمس) الأسطورة عينها وكان «جيرودو» نفسه كتبها ونشرها في عام 1937 تحت اسم «الحداد يليق بإليكترا». تبدأ أحداث «الذباب» من اليوم الذي يعود فيه «أورست» من منفاه إلي مملكة والده الراحل في «آرجوس» حيث تستقبله جيوش ذباب لا أول لها ولا آخر، وإذ يبدي «أوريست» دهشته وانزعاجه منها يوضح له «جوبيتر» كبير الآلهة، الذي ظل يرافقه في رحلته وهو متخف في صورة مسافر عادي، أن هذا الذباب ليس إلا «ربات العذاب» المعنية بملاحقة المخطئين وهي تطن وتزن علي هذا النحو لتذكر أهل المدينة بجريمة مقتل ملكهم «أجاممنون».. ثم بعد ذلك يلتقي «أوريست» أخته «إليكترا» وقبل أن يفصح لها عن شخصيته تأنس له وتبوح أمامه بيقينها أن «إيجست» هو قاتل والدهما بمساعدة أمهما، هنا يصارحها شقيقها بحقيقته وبأنه يشاركها العلم بالمؤامرة التي أودت بحياة الملك الأب.. تبتهج «إليكترا» وتتشجع بأخيها العائد فتنطلق تحرض الشعب علنًا علي الثورة ليس فقط انتقاما ل «أجاممنون»، ولكن أيضا من أجل الخلاص من الظلم والطغيان ونيل حريته التي صادرها «إيجست» بعدما استتب له حكم المدينة. غير أن «أوريست» لا يطيق صبرا ولا ينتظر ثورة الشعب وتحقيق الخلاص الجماعي بل يقرر بعد تردد أن يحصل علي خلاصه وينفذ انتقامه الشخصي بنفسه، ولا يكتفي بقتل «إيجست» وإنما يقتل أمه الخائنة أيضا، مما يثير جزع ورعب أخته «إليكترا» التي يروعها كل هذا العنف والحقد المشتعل في صدر أخيها، وعندما تلجأ إلي كبير الآلهة «جوبيتر» تجده يشاطرها الاعتقاد بأن «أوريست» انجرف إلي هاوية الإجرام بينما هو يظن أنه يحاربه ويعاقب المجرمين والخونة، ومن جانبها فإن «ربات العذاب» التي تلبست هيئة ذباب وظلت سنينا طويلة تطوف في أجواء «آرجوس» وهي تطن وتلح علي الانتقام، ها هي الآن تنقلب وتغير اتجاهها فتطارد ابن الملك المقتول حتي تعاقبه لأنه هو نفسه قد أصبح قاتلا ومجرما!! صباح الفل...