الرئيس النيجيري المنتخب ديمقراطيًّا محمد بخاري أعلن قبل يومين أنه سيبيع طائرتين رئاسيتين في إطار حملة حكومية رسمية للتقشف، ولخفض التكاليف بسبب الركود الاقتصادي الذي تعاني منه بلاده. وواحدة من تلك الطائرات هي من طراز فالكون 7 إكس، التي ثارت زوبعة كبيرة بسببها لدينا هنا في مصر قبل شهرين، بعد أن نشرت مواقع إخبارية فرنسية أن مؤسسة الرئاسة تعاقدت على شراء أربع طائرات من نفس الطراز المجهز بالرفاهيات اللازمة لتنقلات كبار المسئولين وضمها لأسطول الطائرات الرئاسية. طبعًا مؤسسة الرئاسة نفت الخبر بشكل قاطع، وشددت على أنها لا تقوم بعقد صفقات لشراء الطائرات. ووسط المصائب اليومية المتتالية، في مصر والعالم، تاه الخبر الخاص بشراء الطائرات الأربع وسط جدل حول الجهة التي تعاقدت لشراء تلك الطائرات المعدة لراحة علية القوم والضيوف من الرؤساء وكبار المسئولين، والقول إن وزارة الدفاع هي الجهة المختصة بعقد صفقات الطائرات وليست الرئاسة. ولا يعرف أحد بشكل قاطع حتى الآن ماذا جرى لتلك الصفقة وإذا ما كنا نحتفل قريبًا بضم الطائرات الفالكون 7 إكس الأربع لأسطول الطائرات الرئاسية، كما احتفلنا بوصول الميسترالين، جمال عبد الناصر وأنور السادات، وطائرات الرافال بمليارات الدولارات. كما تمت التغطية سريعًا على السؤال الأهم الذي أثاره انتشار خبر الصفقة، وهو إذا كانت مصر، في ظل ظروفها الاقتصادية المتدهورة حاليا، تتحمل شراء طائرات جديدة لتنقل كبار المسئولين أم أنه مطلوب من قيادتها أن تتصرف كما نيجيريا، أكبر رابع مصدر للنفط في العالم، وتبدأ في بيع بعض الطائرات من الأسطول الرئاسي. إعلان بخاري لم يكن الوحيد من مسئول حكومي تتبنى بلاده الإجراءات التقشفية بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية، ويؤكد من خلاله أنه لكي يصدق الشعب ويتضامن مع أية إجراءات ستلجأ لها الحكومة وستلحق به الأذى في قوت يومه وأسرته، فإنها يجب أن تبدأ بنفسها وترفع شعار "التقشف للجميع". رئيس وزراء تونس الشاب الجديد يوسف الشاهد قرر فور توليه منصبه فرض تخفيض على مرتبات كل الوزراء بمقدار 500 دولار، وسط إجراءات تقشفية رسمية عدة. بل إن المملكة السعودية بكل ما لديها من احتياطي نقدي ضخم، بدأت في إجراءات تقشفية في ضوء تراجع سعر برميل النفط وزيادة التكاليف التي تتحملها حكومة الرياض، بسبب التورط في حروب خارجية في اليمن وسوريا، وأعلن الملك سلمان مؤخرًا تخفيض رواتب الوزراء وأعضاء مجلس الشورى السعودي بنسبة عشرين في المائة. الآية معكوسة لدينا هنا في مصر، وسط اعتقاد رسمي راسخ على ما يبدو بأن الالتزام بمظاهر الفخفخة والبذخ والهدر على المستوى الرسمي له هدف أسمى وأهم، وهو رفع معنويات الشعب وخلق انطباع بأنه مهما تزايدت المعاناة اليومية من الغلاء المتواصل للأسعار وغياب خدمات أساسية وأدوية وتعليم ومياه للشرب، فإننا ما زلنا قادرين على تنظيم استعراضات ضخمة تبهر العالم وضيوف الرئيس. نعم نحن بلد فقير، وأكثر من ربع السكان يعيشون تحت خط الفقر، ولكن القاطن في المقابر ويتناول مياهًا صدئة من الزير سيشعر أنه ارتوى عندما يرى رئيسه بكامل بزته العسكرية في مقدمة الباخرة الملكية "المحروسة" يتفقد توسعة قناة السويس وسط حضور عالمي مميز وطائرات حربية تقوم بمناورات في السماء، وشركة إنتاج تليفزيوني بريطاني تتولى تصوير الحدث وإخراجه مقابل ملايين الدولارات. ولا بد أن يكون الموكب الرئاسي مكونًا من عشرات السيارات المصفحة والمجهزة، ولا بأس من فرد السجادة الحمراء لسياراته في إحدى الزيارات. كما أن وزراءنا لا بد أن يبقوا دائمًا في مظهر لائق، محاطين بطاقم حراسات وسيارات فارهة لزوم التنقل وادعاء صورة الدولة القوية. ولا بأس أن يصطحب الرئيس في كل عام أثناء زيارته لنيويورك وفدًا كبيرًا من المسئولين، هذا عدا فرق التشجيع من المتطلعين المخلصين. طبعًا سيقفز أنصار الرئيس ليقولوا إن رجال الأعمال الذين يقال لنا إنهم هم الذين مولوا هذا الاحتفالات والزيارات بمالهم الخاص، بينما أي عاقل سيرد سريعًا بأن الرئيس السيسي الذي يسعى وراء الفكة ويطالبنا بالتصبيح على مصر بجنيه، سيكون أكثر سعادة بكل تأكيد لو ذهبت تلك الأموال لتمويل مشاريع تحقق ولو الحد الأدنى من التحسن في مستوى معيشة شعبه، نور عينيه. حالتنا الاقتصادية مزرية، والبلد عمليًّا مفلس، مع الوضع في الاعتبار أن الاحتياطي النقدي الحالي، وسواء كان 16 مليار دولار أو 19 مليار فجأة، لا يكفي لاستيراد احتياجاتنا الأساسية من مواد نفطية وقمح وأغذية ومكونات أساسية سوى لثلاثة أو أربعة أشهر. وإذا كان الرئيس مصممًا على التمسك بمشاريع تنموية ضخمة لن تدر عائدًا سوى بعد سنوات عدة، فإنه لا يوجد وسيلة أخرى لتمويل تلك المشاريع سوى القروض التي سيدفع ثمنها كذلك الأجيال المقبلة على مدى سنوات عدة. وفي الوقت نفسه، تتم محاولة بيع الوهم لنا بترديد أسطوانة مشروخة مفادها أن كل دول العالم تلجأ للاقتراض، وأن الاستدانة في مصر ما زالت في الحدود الآمنة، مع تناسي أن تلك الدول تلجأ للاقتراض من أجل تحقيق نهضة اقتصادية تسمح بتغطية الديون وفوائدها، بينما نحن في مصر نقترض لكي نسد احتياجات أساسية ولسداد ديون قديمة مما لا يسمح بتحقيق النهوض الاقتصادي، خاصة مع استمرار سياسة الإنفاق ببذخ في مشاريع يتفق الكثيرون على أنها لا تمثل أولوية مثل توسعة قناة السويس والعاصمة الإدارية الجديدة والتعاقد لإقامة محطات نووية سلمية في الضبعة. من غير المعقول ولا المقبول أن يكون الشعب المصري فقط هو الذي يدفع ثمن ما يسمونه بالإصلاحات الاقتصادية الضرورية، وإذا كانت المعاناة ستتزايد في الأيام القادمة مع البدء في تعويم الجنيه واتخاذ المزيد من الإجراءات الصعبة، فلا بد أن تبدأ الحكومة بدورها في إجراءات تقشفية حقيقية تؤكد أن الجميع في الهمِّ سواء، بداية من الرئاسة والوزارات والأغنياء.