تقترح رواية «كتاب النحات» لأحمد عبد اللطيف العودة لسؤال الوجود، لفكرة أولى طالما وقف أمامها الإنسان، وعيًا وتأملًا، وعاود مواجهتها، لا فى سبيل إيجاد جواب شافٍ لها فذلك أبدًا لن يكون، بل لاختبار قدرته على استعادة السؤال بما يحتويه من قلق وهو يحمل انشغالًا عميقًا فى معاينة فكرة الخلق، طريقًا من طرق المعرفة التى لا تُحدّ، الطريق الذى سارت فيه من قبل إبداعات إنسانية عدّة مقترحة محاولاتها فى اليوتوبيا، فكرةً وتمثُّلًا، وهى مواجهة تقترحها فى كلِّ مرّة خصوبةُ المسعى وجسامةُ السير فيه. تواصل «كتاب النحات» قلقًا شغل الفكر الإنسانى طويلًا ليُستعاد فى زمن مبكّر من أزمنة الكتابة الروائية العربية مع فرح أنطوان وفرنسيس فتح الله مراش، مع تباين الأهداف والغايات، وقد مثّل الوجود بالنسبة إليهما فكرة ومواجهة وسؤالًا، حتى زمن قريب من أزمنة الكتابة كما فى أعمال مثل «أبناء حارتنا» لمحفوظ و«المسرّات والأوجاع» للتكرلى، حيث تعيش الفكرة تحولاتها وهى تسعى لتدوين وجه عصرى من وجوه السؤال. إنها وجهة روائية لتجديد السؤال والانتقال به إلى منطقة تُغنيها الذاكرة وقد عاشت قلقها فى مواجهة حَيرة الوجود، وهى، فى الآن نفسه، مساءلة لحقل أحمد عبد اللطيف الروائى والانتقال به من قلق الفرديّة الذى شكّل التقاطًا شذريًّا تتسع معه الرواية وتمتد عبر انشغالها بشخصية محدّدة كما فى روايتى «صانع المفاتيح» و «عالم المندل»، وقد اختير لهما أن تتحرّكا على مساحة من نفس الإنسان وشواغله، لتعدّ الشخصيّة المركزية فيهما مادة الرواية وحقل اختبارها، إلى سؤال التجربة الإنسانية فى مظهرها الجمعى وهى تولد وتنمو حاملة فى دواخلها أسباب فنائها، من هنا لم تكن تجربة مجتمع «كتاب النحات» قد تحققت لمرّة واحدة، إنها حلقة من سلسلة سبقتها تجارب مماثلة ولحقتها أخرى، التجارب التى تجمعها رحلة النحات وهو يعبر بزورقه الأنهار باحثًا عن جزر جديدة، حاملًا معه ما يكفى من الطين لنحت كائنات هى عُدّة تجربة تنهض على أنقاض أخرى قديمة يكون فيها شاهدًا وشريكًا وهو يدخل اختبار الوجود فى كل مرّة من باب مختلف تفتحه هواجس الإنسان ورغباته، لتبدو شخصيات الرواية بذلك تمثيلًا للهواجس وتجسيدًا للرغبات فى قوام يخلع عن الشخصيات أسماءها ويمنحها صفات بديلة ابتداء من النحات نفسه مرورًا بعروسة النهر، والأم، وزوج الأم «المخرج المسرحى»، ورجل البرميل، ورجل القضيب، وبائعة بطاقات اليانصيب، فضلًا عن شخصيات ثانوية تبتكرها الرواية من طين العزلة، إنها جميعًا تحيا قلقها الخاص ليظل سؤال الخلق حيًّا، فاعلًا ومؤثرًا، يرنُّ فى فضاء الرواية وهى تنتقل بنحاتها لإنتاج تمثيل جديد ليوتوبيا قديمة لن تكون غير صدى منكسر عن فكرة خلق أول فيه من القسوة وعسر السؤال ما يقوده، كأنما بإرادة حتمية، لانقلاب المخلوق وانجذابه الأعمى لإرادة الخديعة والزوال. طبقة بعد طبقة تتابع الرواية تحولات مجتمعها، وترصد انقلاب وقائعها مستندة إلى تقنية المخطوط التى توجهها عتبتان: نبويّة وفلسفية، تتواجه فى العتبة الأولى فكرتا النوم والانتباه، وبينهما يقف الموتُ فعلَ إثارةٍ وتحفيز، «الناس نيام فإن ماتوا انتبهوا»، ويتجلّى فى الثانية موقف الرواية على لسان سقراط ضد «فكرة» الجمهور عن الآلهة، حيث تبدو الرواية تمثيلًا واسعًا تؤسسه العتبتان بمرجعيتيهما ومحموليهما فى نسيج لغوى متباين، يستعين الراوى على كتابته بأحبار مختلفة، ظانًّا فى ديباجة مخطوطه «أن فى ذلك فرادة ولفتًا واجتهدتُ قدر استطاعتى ليكون تعدّد أصوات الرواة إلمامًا بجوانب الحكاية ويكون إيقاع لغتهم من بطىء إلى متعجل، ومن سرد أحداث إلى متأمل فيها، ومن تجريد إلى تجسيد»، لتقارب الديباجة بيان التأليف فى مدوّنات السرد العربى القديم وتكشف بعضًا من خصائصه، من تعدد الأصوات إلى تحوّل الإيقاع اللغوى، ومن مواجهة الحدث، سردًا وتأملًا، إلى خصيصتى التجريد والتجسيد اللتين تؤمّنان للعمل الروائى تباينًا لا يقف عند مهمات الشكل اللغوى بل يجتهد فى سبيل التعبير عن قلق الشخصيات وهى تحيا خوف التجربة الأولى وتتذوق مراراتها، وهى تمضى منقادة باتجاه أقدارها. النحات، وحده، مَنْ يتطلّع إلى كتابة قدره، كل منحوتة كلمة، وكل تجربة جملة فى عالم يبدو الإنسان فيه كاتبًا ومكتوبًا فى آن، «أنزل إلى النهر وأسبح. أصير سمكة تخترق الماء بمرونة، وأعتليها بظهر مسترخٍ… ليس حسنا أن نخلق كائنًا منفردًا وأن نكتب له العزلة كمصير حتمىّ، حتى لو كنا على يقين أننا، سواء أردنا ذلك أم حاربناه، سنموت وحيدين»، لكن حكاية النحات تُستعاد مرّة أخرى من أجل استمرار العالم وتواصل التجربة الإنسانية التى لا تستمر بغير حكاية تأخذنا أبدًا لحياة التماثيل، «فربما ينتهى العالم لو انتهت الحكايات».