فى كتاب "هذه ليست حقيبة" (1) الذى كتب نصوصه سبعة عشر كاتبا عربيا (2) مهاجرا فى بلجيكا، يتحدثون فيها عن هذا المكان الذى تحول إلى وطن، ومن خلال التعبير عنه لغويا فى نصوصهم سيتحول أيضا إلى وطن لغوى وثقافى، وهى غاية أى هجرة، أن تغرز نفسها فى اللغة الأخرى. هذه النصوص تطرح تساؤلات عديدة وهامة، فى شكل حكايات، حول جوهر الهجرة، وتبدأ فى رسم ملامح جديدة للمهاجر، تقترب وتبتعد عن ملامح المهاجر القديم. باعث الكتاب هو صياغة صورة وبوصلة المهاجر العربى الجديد الذى يعيش فى بلجيكا، بعد موجة الإرهاب الأخيرة التى ضربتها فى 22 مارس الماضى - الكتاب مهدى لضحايا هذا الهجوم. لا يريد هذا المهاجر الجديد أن يلمِّع صورته أو يضطر إلى أن يدافع عن ذنب لم يرتكبه، هو فقط يريد أن يعبر عن نفسه دون ادعاء أو مغازلة للغرب، كما تشرح مقدمة الكتاب التى كتبها الشاعر والكاتب المغربى طه عدنان. يرصد الكتاب، عبر نصوصه المتنوعة، بين التسجيل والتخييل، التغيُّر الذى طرأ على هذا "المهاجر الأدبى الجديد"، الذى لا يلبى أو يعبر عن صورة نمطية فى المخيلة الغربية ينتظرونها منه، كما فعل "مصطفى سعيد"، من أشهر المهاجرين فى الرواية العربية؛ بطل رواية الروائى السودانى الكبير الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" (1966) والذى ارتبط بصورة الفحولة فى المخيلة الغربية؛ بل يكسر أى صورة نمطية، لذا هو مهاجر غير مسيس أدبيا، يريد أن يطرح كل إنسانيته وتلقائيته فى نصوصه وحياته. فى بعض نصوص الكتاب ستجد صيغة المخاطب البعيد، مثل المرسل إليه الغائب أو المجهول. ستجد هذا المخاطب فى النصوص السردية التسجيلية، وفى بعض النصوص التخييلية، وهو يدل على أن هناك "آخر" لم يتحقق داخل هذا المكان الجديد، وما زال خارجه، ربما يعبر عن الوطن الأم. عادة يختار المهاجر الجديد مدنا صغيرة مستأنسة ليعيش فيها، ربما ليرى بوضوح صوت غربته ويتسمع لأنين شكواها، عن أن يكون ذائبا فى ضجيج المدن الكبرى، التى ستغيِّب عنه هذا الصوت الداخلى. ستجد تلك المسافة المفرَّغة من الناس حول هذا "الغريب"، الذى يذهب فى مونولوجات شخصية، ومتابعات، ومراقبة للخارج دون التحام معه، أحيانا تمنعه هذه المسافة من التشبه والاشتباك نفسيا وجسديا مع أهل المدينة. هذا الصمت هو الذى يحميه، وهذه المسافة المفرغة هى التى تحافظ على غربته/ شخصيته الجديدة. يكثر استخدام مصطلح "الغريب" فى تلك السِّير الشخصية للمهاجرين، يصفون أنفسهم ب"الغريب"، بدلا من ذكر مصطلح "المهاجر"، ربما لأن رحلة "الغريب" رحلة داخلية قصيرة، نقيض للألفة التى تشغل مركز الوجود. الغربة صفة حياة حديثة أزالت الفوارق الحدودية وقللت المسافات، ولم تُزل الحدود النفسية. فالهجرة أصبحت نقلة صغيرة، مساحة عدم تأقلم وليس صداما، أو انتزاعا من مكان وانزراعا فى مكان آخر. لقد تغير مفهوم الهجرة تماما. فالمهاجر القديم ابن المسافة الكبيرة الجغرافية، أما المهاجر الحديث فهو ابن المسافة المجازية. المهاجر الحالى، أو "الغريب" مجازا، سافر بعد أن حسم الأمر باتجاه الغرب، ليس بصفته "آخر" للنزال، ولكن بصفته ملجأ، ملاذا، بيتا، جارا، تحت غطاء المسافات القريبة والعولمة. ليس عنده طموح هزيمة الغرب فى عقر داره، مثل "مصطفى سعيد"، هو فقط يريد أن يكون "مواطنا". هذا "الغريب" له صدامه العنيف والمجازى أيضا، تماما مثل "مصطفى سعيد". مهاجر "موسم الهجرة إلى الشمال" متفوق ومتعلم تعليما عاليا، سافر للحصول على الدكتوراه فى البلد المستعمِر لوطنه، لذا يعانى من عقدة نقص مركبة، يريد أن يتفوق على هذا المستعمِر بدافع وطنى، لذا يشعر فى قرارة نفسه بالدونية المغلَّفة بحس وطنى وبرموز جمعية. وهى علاقة مركبة نبتت جذورها على ما أعتقد فى عصر الدولة القومية. المهاجر القديم ابن دولة قومية والمهاجر الحديث "ابن لا دولة"، "ابن لا رمز جمعى"، باستثناء الأصوليين منهم، ودونيته غائرة أو منسية ليس لها علامات سطحية، وليس لها غلاف يحميها. المهاجر الجديد هو مهاجر ليس له بعد سياسى كما فى السابق، أو له مشاعر سياسية غامضة ومشاعر انتماء غامضة وملتبسة أيضا. هو المهاجر المجازى، الذى يهاجر بدون انفصال. الدخول لبلد المهجر، عادة ما يعبر بالمرأة، جسدها، روحها، وقلبها. هناك زواج حقيقى، زواج ورقى شكلى، صداقة، أو حب. لا يزال الجنس، إحدى علامات الفحولة، هو أحد مداخل المهاجر الجديد أيضا، للتأقلم السريع مع الحياة فى بلد المهجر، أو لاكتشاف الذات الذكورية التى يريد أن يلفظها فى نفسه، حتى لا يعيش فى تناقض المهاجر القديم نفسه: "مصطفى سعيد" بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال". تعددت أشكال الهجرة الحديثة، وأصبح المهاجر له أكثر من صفة وتصنيف تبعا للوضع الخاص وتبعا للبلد الأصلى، بلد المنشأ: المهاجر، الغريب، المنفي، الأجنبي، اللاجئ. هناك جملة هامة يطلقها أحد المهاجرين، اسمه عيسى، داخل الكتاب "لا حلول فردية لمشاكل تاريخية" فالسفر حل فردى، وربما سبب الهجرة هو تلك المشكلة التاريخية. ربما يقصد أن العودة لوطنه أصبحت أهم، ليحل المشكلة من جذورها التاريخية، حيث لم يجد نفسه فى الهجرة. ربما هذا الرأى يلخص شكل الهجرة المستقبلية، ربما تكون هناك مراجعة شاملة لفكرة الهجرة. ربما الأجيال الجديدة من المهاجرين ستختفى فيها مرجعية الأوطان واللغة، أو يكون للتاريخ وجهة نظر أخرى، وتختفى بدلا منه، تلك "الحقبة الطويلة" من الهجرات ذات الاتجاه الواحد، والتى خرج منها أدب المهجر. أو ربما تأخذ الهجرة مسارات متناقضة وغير متوقعة فى انعكاساتها الأدبية، من حيث المزيد من إدغام المسافة بين الدول، والمزيد من الهرب للذات الداخلية. بأى ذات سيهاجر المهاجر المستقبلى؟ ربما مصطلح المهاجر لم يعد صالحا بشكل كامل ليوفى المعنى، استبدل به المسافر، أو "المسافر الأبدى" (3) حتى ولو لم يعد هذا المسافر إلى موطنه الأصلى. ___________________________________ (1) "هذه ليست حقيبة - سرود عربية تحت سماء بلجيكية"- إعداد وتحرير طه عدنان- منشورات ملتقى الطرق- ومجلس الجالية المغربية بالخارج- 2016. (2) هوشنك أوسى - أكراد سوريا. علال بورقية- المغرب. عماد فؤاد - مصر. ماجد مطرود - العراق. الهادى عجب الدور- السودان. حازم كمال الدين - العراق. بيسان أبو خالد- فلسطين. نبيل أكنوش- المغرب. زهير الجبورى - العراق. نسمة العكلوك- فلسطين. على بدر - العراق. هشام آدم - السودان. أسعد الهلالى - العراق. عبد الله مكسور - سوريا. خالد كاكى - العراق. مهند يعقوب- العراق. طه عدنان - المغرب. (3) اسم مجموعة قصصية للأديب الكبير الراحل علاء الديب (1939- 2016).