يدعونا المشهد السياسى المصرى الراهن إلى استدعاء فقه الأولويات إلى صدارة الصورة فى هذه اللحظات الهامة لتذكيرنا بضرورة التدبر فى ما يدعو إليه هذا الفقه من تقديم الأصول على الفروع، ومقاصد الشريعة على الوسائل والآليات، والإيمان على بر الوالدين، وبر الوالدين على الجهاد، وفرض الكفاية والفرض على السنة، والعلم قبل العمل، والكيف على الكم، والاجتهاد على التقليد، والعمل الدائم على المنقطع، وعمل القلب على عمل الجوارح وترك الكبائر قبل الصغائر والكفر والشرك قبل البدع، بمعنى آخر وبلغة بسيطة فإن هذا الفقة يدعونا إلى غربلة وترتيب الأولويات وإلى عدم السماح بأن تختطفنا الأحداث ومجريات الأمور وتسارعها لكى نبعد تركيزنا عن الهدف الرئيسى الدائم إلى مشكلات فرعية وقتية تخرج بنا عن المسار الحقيقى لجهودنا إلى حارات فرعية مظلمة ومعظمها ينتهى بنا إلى «حيطة سد» تهدر وقتنا وطاقتنا فى ما لا طائل من ورائه فى نهاية الأمر، ونحن الاّن فى ما نواجهه من تحديات متلاحقة وخطيرة فى سعينا نحو مصر الحديثة والمتقدمة أحوج ما نكون إلى مراجعة أولوياتنا بتركيز ووضوح للرؤية المستقبلية التى نسعى إلى تحقيقها، التى تبدو أحيانا وكأنها غائبة عن نظرنا أو فى أفضل الفروض يحيط بها ضباب كثيف يشوه ملامحها الرئيسية وبالتالى نندفع نحو الاهتمام بأهداف أخرى، وكأنها غاية المنتهى، وإذا لم يكن الأمر كما أقول فدعونا نتساءل: ألم تكن هذه الحشود والمظاهرات والمطالبات للملايين من عامة المصريين فى 30 يونيو و26 يوليو تدعو بوضوح وصراحة ودون مواربة إلى أهداف محددة جوهرها هو الدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة والتصدى لمحاولة جماعة الإخوان اختطاف البلاد وإحكام السيطرة عليها لصالح فريق معين والعمل فورًا على وقف الترويع والإرهاب واسترداد الحياة الآمنة لجميع المصريين سياسيًّا وإقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا والتحرك بخطى حثيثة نحو مصر الديمقراطية المتقدمة، ألم تكن هذه هى المطالبات فى مجملها؟ والإجابة قول واحد نعم بكل تأكيد! إذن ما الذى نراه يحدث الآن على الساحة المصرية؟ وهل رتبت الحكومة المصرية الجديدة بالتعاون مع الرئاسة المصرية المؤقتة خطة عملها الراهنة وفقا لهذه الأولويات المطالب بها بالفعل؟ وهل قامت الحكومة المصرية بإعلان هذه الخطة وجدولها الزمنى لتحقيق الأهداف المذكورة بشفافية كاملة حتى تصبح هذه الجماهير على بينة مما ينتظرها خلال الشهور القليلة القادمة؟ وقبل كل ذلك وبعده أيضا هل اتخذت هذه الحكومة وتلك الرئاسة، اللتان حصلتا على ما يمكن أن نسميه «تفويض على بياض» لم يسبق منحه لأحد خلال أكثر من عامين من عمر ثورة 25 يناير لتبنى سياسات واتخاذ إجراءات حاسمة مؤيدة شعبيًّا على أرض الواقع لتحقيق الأهداف المذكورة، أقول هل قامت الرئاسة المصرية أو حكومتها بتفعيل هذا التفويض لصالح جماهير الشعب المصرى بخطوات عملية حتى ولو كانت صغيرة لإعطاء رسائل إيجابية على تحسن الأحوال للجماهير المنتظرة على أحر من الجمر لإشارات التحرك قدما نحو مستقبل أفضل؟ الإجابة السهلة إجمالا هى أننا لم نر بعد بوضوح هذه الخطوات المشار إليها على الطريق الرئيسى لتحقيق الأهداف، صحيح أن الرئاسة مشغولة بتحسين علاقاتنا مع العالم الخارجى، وحقيقى أنها تحاول تصحيح الصورة المصرية لما حدث بأنه ثورة شعبية وليس انقلابا عسكريا، وأنها تحقق نجاحًا ملحوظًا فى الموضوعين، لكننا فى ذات الوقت ما زلنا جميعا مختطفين كلية بموضوع ما سيحدث باعتصامى رابعة والنهضة وخطورة الموضوع هنا هو أنه يبدو أن كل شىء آخر فى هذه الدولة الكبيرة موضوع على «خاصية الانتظار» حتى تقرر الحكومة ماذا ستفعل بخصوص هذا الأمر وتتناثر الأقاويل هنا وهناك عن مفاوضات ووساطات وزيارات ولقاءات ومباحثات مختلطة ببالونات اختبار مصرية وإقليمية ودولية دون أن نعرف إلى أى اتجاه نمضى وما خياراتنا المستقبلية، هذه البلاد يا حضرات تحتاج إلى خطة إنقاذ عاجلة جدا لدعم الاقتصاد المصرى قبل أن يمضى فى طريق لا رجعة منه، تحتاج إلى حكومة قوية حاسمة وقادرة تنجز الأمور المعيشية والحياتية للمواطن المصرى الذى فعل كل ما فى وسعه لتحسين حياته وتفويض قياداته، لكنه ما زال ينتظر النتيجة الإيجابية، تحتاج إلى خطاب صريح وواضح من قيادة قوية وواثقة لا تحاول إرضاء كل الأطراف وتسعى أن يحبها الجميع أيا كان الثمن، فالشعب المصرى الآن يريد أن يتأكد أنه قد وضع ثقته فيمن يستحقها، فنرجوكم أن تعيدوا النظر فى قائمة أولوياتكم وتعملوا بجد على سرعة تحقيقها آخذين فى الاعتبار أن من أعطى كارت التفويض على بياض يستطيع أيضا أن يعطى، لا قدر الله، الكارت الأحمر.