أسعار الخضروات اليوم الأربعاء 29-5-2024 في قنا    ارتفاع أسعار النفط مع توقعات إبقاء كبار المنتجين على تخفيضات الإنتاج    منها تيك توك وميتا وإكس، أمريكا تطالب شركات التكنولوجيا بالإبلاغ عن المحتوى المعادي للسامية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 29-5-2024    سينتكوم يعلن إسقاط 5 مسيرات أطلقها الحوثيون فوق البحر الأحمر    شيكابالا يطلق مبادرة للصلح بين الشيبي والشحات، واستجابة فورية من نجم الأهلي    وظائف السعودية 2024.. أمانة مكة تعلن حاجتها لعمالة في 3 تخصصات (التفاصيل والشروط)    محمد فاضل بعد حصوله على جائزة النيل: «أشعر بالفخر وشكرًا لوزارة الثقافة»    بالصور.. انطلاق أول أفواج حج الجمعيات الأهلية إلى الأراضي المقدسة    صلاة الفجر من مسجد الكبير المتعال فى بورسعيد.. فيديو وصور    مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 29 مايو في محافظات مصر    حج 2024| هل يجوز حلق المحرِم لنفسه أو لغيره بعد انتهاء المناسك؟    حج 2024| ما الفرق بين نيابة الرجل ونيابة المرأة في الحج؟    الحوثيون أطلقوا 5 صواريخ بالستية مضادة للسفن في البحر الأحمر    نصف شهر.. تعرف على الأجازات الرسمية خلال يونيو المقبل    «كان زمانه أسطورة».. نجم الزمالك السابق: لو كنت مكان رمضان صبحي ما رحلت عن الأهلي    فيديو ترويجي لشخصية إياد نصار في مسلسل مفترق طرق    شهداء وجرحى جراء قصف إسرائيلي على جنوب قطاع غزة    إسرائيل تسير على خط العزلة.. والاعتراف بدولة فلسطين يلقى قبول العالم    التعليم تطلق اليوم المراجعات النهائية لطلاب الثانوية العامة 2024 على مستوى الجمهورية    يرسمان التاتوه على جسديهما، فيديو مثير لسفاح التجمع مع طليقته (فيديو)    جوزيف بلاتر: أشكر القائمين على منظومة كرة القدم الإفريقية.. وسعيد لما وصلت إليه إفريقيا    حزب الله يبث لقطات من استهدافه تجهيزات تجسسية في موقع العباد الإسرائيلي    اليوم.. الحكم علي المتهم بقتل طليقته في الشارع بالفيوم    ارتفاع أسعار اللحوم في مصر بسبب السودان.. ما العلاقة؟ (فيديو)    واشنطن: هجوم رفح لن يؤثر في دعمنا العسكري لإسرائيل    وزير الصحة التونسي يؤكد حرص بلاده على التوصل لإنشاء معاهدة دولية للتأهب للجوائح الصحية    كريم العمدة ل«الشاهد»: لولا كورونا لحققت مصر معدل نمو مرتفع وفائض دولاري    حسين عيسى: التصور المبدئي لإصلاح الهيئات الاقتصادية سيتم الانتهاء منه في هذا التوقيت    إلهام شاهين: "أتمنى نوثق حياتنا الفنية لأن لما نموت محدش هيلم ورانا"    هل يمكن أن تدخل مصر في صراع مسلح مع إسرائيل بسبب حادث الحدود؟ مصطفى الفقي يجيب    شيكابالا يزف بشرى سارة لجماهير الزمالك بشأن زيزو    «مستعد للتدخل».. شيكابالا يتعهد بحل أزمة الشحات والشيبي    «خبطني بشنطته».. «طالب» يعتدي على زميله بسلاح أبيض والشرطة تضبط المتهم    إصابة 6 أشخاص في حادثي سير بالمنيا    إرشادات للتعامل مع مرضى الصرع خلال تأدية مناسك الحج    نشرة التوك شو| تحريك سعر الخبز المدعم.. وشراكة مصرية عالمية لعلاج الأورام    أسماء جلال تكشف عن شخصيتها في «اللعب مع العيال» بطولة محمد إمام (تفاصيل)    رئيس رابطة الأنديةل قصواء: استكمال دوري كورونا تسبب في عدم انتظام مواعيد الدوري المصري حتى الآن    كريم فؤاد: موسيمانى عاملنى بطريقة سيئة ولم يقتنع بى كلاعب.. وموقف السولية لا ينسى    باختصار.. أهم أخبار العرب والعالم حتى منتصف الليل.. البيت الأبيض: لم نر أى خطة إسرائيلية لتوفير الحماية للمدنيين فى رفح.. النمسا: مبادرة سكاى شيلد تهدف لإنشاء مظلة دفاع جوى أقوى فى أوروبا    شعبة المخابز تكشف حقيقة رفع الدعم عن رغيف الخبز    إبراهيم عيسى يكشف موقف تغيير الحكومة والمحافظين    هل طلب إمام عاشور العودة إلى الزمالك؟.. شيكابالا يكشف تفاصيل الحديث المثير    3 أبراج تجد حلولًا إبداعية لمشاكل العلاقات    رسائل تهنئة بمناسبة عيد الأضحى 2024    «الأعلى للآثار» يفتتح مسجد الطنبغا الماريداني بعد ترميمه.. صور    أحمد دياب: فوز الأهلى والزمالك بالبطولات الأفريقية سيعود بالخير على المنتخب    اليوم.. محاكمة المضيفة المتهمة بقتل ابنتها في التجمع الخامس    تراجع سعر الحديد وارتفاع الأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الأربعاء 29 مايو 2024    الوقاية من البعوضة الناقلة لمرض حمى الدنج.. محاضرة صحية بشرم الشيخ بحضور 170 مدير فندق    «زي المحلات».. 5 نصائح لعمل برجر جوسي    بدء الاختبارات الشفوية الإلكترونية لطلاب شهادات القراءات بشمال سيناء    ننشر أسماء المتقدمين للجنة القيد تحت التمرين في نقابة الصحفيين    جمال رائف: الحوار الوطني يؤكد حرص الدولة على تكوين دوائر عمل سياسية واقتصادية    اشترِ بنفسك.. رئيس "الأمراض البيطرية" يوضح طرق فحص الأضحية ويحذر من هذا الحيوان    شروط ومواعيد التحويلات بين المدارس 2025 - الموعد والضوابط    محافظ مطروح يشهد ختام الدورة التدريبية للعاملين بإدارات الشئون القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب نائب رئيس الوزراء السابق د.حازم الببلاوى .. أربعة شهور فى قفص الحكومة (1)
حكاية وزير مالية مصرى فى مهمة إنقاذ عاجلة وقصيرة
نشر في الشروق الجديد يوم 05 - 01 - 2012

بعد أشهر قليلة قضاها فى حكومة شرف الثانية، والتى تولت المسئولية فى ظروف صعبة، قرر حازم الببلاوى، وزير المالية ونائب رئيس الوزراء السابق، أن يكتب عن تجربته «أربعة شهور فى قفص الحكومة»، إيمانا منه بأن الاقتصاد المصرى يواجه أخطارا حقيقية، تستوجب معرفة القارئ بها وبضرورة مواجهتها بشكل سريع، حتى لا تهدر الآفاق المشرقة التى تلوح أمام مصر نتيجة العجز عن تجاوز مشكلات «وقتية ولكنها عاجلة».

«الشروق» تنشر أجزاء من الكتاب، الذى يصدر خلال أيام عن دار الشروق، على حلقات تتعرض لأهم القضايا التى واجهة حكومة شرف الثانية.

ليس الغرض من هذه الصفحات تسجيل تجربتى فى المشاركة فى حكومة الدكتور عصام شرف، كما أنها ليست «كشف حساب» عما قدمته أو عجزت عن تقديمه. ولكننىشعرت، وأنا أترك الحكومة، أن البلاد تمر بمرحلة دقيقة وبالغة القلق وعدم الاستقرار، وأن أحد أخطر ضحايا هذا الوضع هو الواقع الاقتصادى القائم.

ولذلك رأيت أن هناك حاجة إلى توضيح عدد من المشكلات الاقتصادية التى تواجهنا الآن. كما رأيت أن أسلوب عرض بعض هذه المشكلات من خلال تجربتى «القصيرة» فى الوزارة، قد يكون أكثر تأثيرا وفاعلية. ولذلك لم يكن غريبا أن يكون تركيزى فى هذه الصفحات على الجوانب الاقتصادية أكثر من غيرها. وقد حرصت على شرح المفاهيم الاقتصادية بأسلوب مبسط وسهل بعيدا عن المصطلحات الفنية المعقدة، أملا فى زيادة الوعى بمشكلاتنا الاقتصادية الحالية. فهذا هو الغرض الأساسى من نشر هذه الأوراق.

وفى هذا العرض تجنبت، قدر الإمكان، مناقشة الجوانب الشخصية إلا استثناء، وبغرض توضيح بعض جوانب المشكلات الاقتصادية القائمة. وطالما أشرت إلى الجوانب الشخصية، فإننى أنتهز هذه المناسبة لكى أعبر هنا عن سعادتى بالالتقاء والتعرف بمجموعة نادرة ومخلصة من الزملاء الوزراء اجتمعت فى ظروف قاسية وتحت ضغوط شديدة، وكانت المسئولية، فى أحيان كثيرة، أكبر من طاقة البشر. وليس معنى ذلك أنه كان هناك دائما انسجام كامل بين الجميع، فهناك اختلافات فى الرؤية، لا شك، ولكنى أعتقد أن الرغبة فى خدمة الوطن كانت هى الشاغل الأكبر والأهم لدى الجميع، أو على الأقل، لدى الغالبية الكبرى من بينهم.

وفى خلال عملى فى وزارة المالية، وهى إمبراطورية شاسعة ومتنوعة، وبرغم ما يشاع عنها من بيروقراطية عريقة، فقد وجدت فى العديد ممن عملوا معى مباشرة، تفانيا فى العمل ورغبة صادقة فى إيجاد الحلول المناسبة، وذلك على الرغم من الاعتراف بتراكم المشكلات وتعقدها وتداخل الصلاحيات وتضاربها. وأنتهز هذه الفرصة لكى أتقدم إلى كل من عمل معى بخالص الشكر، لما وجدته منهم من إخلاص وصدق فى أداء المهام.

ولا أستطيع أن أقول إن فترة عملى فى هذه الحكومة كانت مريحة أو سهلة، بل غلبت عليها قسوة المطالب العاجلة من كل حدب وصوب، فى مقابل ندرة الموارد ومع تشعبها وبعثرتها. وإذا كان الإرهاق وجسامة العبء هما أحد الجوانب الهامة، فإن الجانب الآخر كان الإثراء فى التجربة والاعتزاز بخدمة الوطن فى هذه اللحظات الدقيقة والصعبة.

وإذ أضع هذه الانطباعات تحت نظر القارئ، فأملى أن تساعد، ولو قليلا، على إيضاح صعوبة مشكلاتنا الاقتصادية العاجلة، وحاجتها إلى المواجهة السريعة والواقعية، وأن الآمال أمام هذه الأمة لتحقيق مستقبل زاهر هى آمال كبيرة وواعدة، وعلينا ألا نهدر هذه الآفاق المشرقة بعجزنا عن تجاوز مشكلاتنا الوقتية والعاجلة.

لم يكن فى نيتى أن أكتب شيئا عن تجربتى فى الحكومة، ولذلك لم أحاول أن أسجل، فى حينه، الأحداث التى مرت أمامى. وبعد أن خرجت من الحكومة، وجدت أنه من الإنصاف، ونحن نمر بأحد أخطر الفترات فى تاريخ مصر المعاصر، أن أضع بعض مظاهر تجربتى فى العمل الحكومى، تحت نظر القارئ، وذلك قبل أن يغمرها الزمن وتتآكل الذاكرة وتضيع فى طى النسيان. ونظرا إلى أننى لم أسجل هذه الأحداث فى لحظتها، فإن ما أكتبه اليوم هو استعادة لسرد أحداث مضت، وأرويها حسبما أتذكر أهم المواقف والأحداث التى مازالت عالقة فى ذهنى. وفى مثل هذه الظروف، فإن استعراض هذه الأحداث لن يكون زمنيا متسلسلا بقدر ما هو انتقاء لموضوعات أو مواقف تستحق الإشارة إليها.

وقد كان شعورى منذ وليت منصب الوزارة هو أننى حبيس قفص حكومى استمر لأربعة أشهر بالكمال والتمام. حيث بدأ الأمر مع أداء القسم فى 21 يوليو، وانتهى بتقديم الوزارة استقالتها فى 21 نوفمبر 2011. ومن هنا جاء عنوان هذه الانطباعات. ولنبدأ من البداية.


دخول الوزارة:

عندما قامت الثورة المصرية فى يناير 2011 كنت أعمل فى أبوظبى فى صندوق النقد العربى، وبالتالى لم تكن لى صلة مباشرة بالأحداث الجارية فى ميدان التحرير. وبعد تنحى الرئيس السابق وتخليه عن السلطة واختيار أحمد شفيق رئيسا للوزراء، بدأت المطالبات ترتفع فى الميدان لاختيار رئيس وزراء ووزارة جديدة تكون معبرة عن تطلعات الثائرين. وتعددت الترشيحات وتنوعت من مختلف الائتلافات والتجمعات الثورية، ويبدو أن التوافق النهائى قد استقر على ثلاثة أسماء لمنصب رئيس الوزراء هم: الدكتور عصام شرف والدكتور أحمد الجويلى بالإضافة إلى العبدلله. وكان ذلك فى خلال الأيام العشرة الأولى من شهر مارس 2011. وفى خلال تلك الفترة جاءنى، وأنا فى مكتبى فى صندوق النقد العربى بأبى ظبى، اتصال تليفونى من القاهرة من رئاسة مجلس الوزراء، وأبلغنى المتحدث بأنه سوف ينقل المكالمة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، حيث أفادنى المتكلم بأنه سوف يوصلنى بالفريق سامى عنان الذى يريد التحدث إلىَّ. وظللت لفترة قصيرة فى انتظار المكالمة إلى أن أبلغنى المسئول أن الفريق قد دخل إلى اجتماع، وأنهم سوف يعيدون الاتصال بى بعد ثلث ساعة عقب انتهاء الاجتماع المذكور. وبطبيعة الأحوال، فقد أثارت هذه المكالمة غير المتوقعة التخمين فى نفسى بأنها غالبا ما تكون متعلقة بتشكيل الحكومة الجديدة، بعد قبول استقالة حكومة أحمد شفيق. وبعد ذلك بفترة وجيزة، اتصل بى أحد الأصدقاء فى القاهرة، لإخبارى أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد أعلن اختيار الدكتور عصام شرف لرئاسة حكومة جديدة.

وانتهى الأمر عند ذلك، وأعلنت الوزارة الجديدة، فأرسلت برقيتين للتهنئة، إحداهما للدكتور عصام شرف الذى كنت قد تعرفت إليه فى إحدى المناسبات فى أبى ظبى، والأخرى للدكتور نبيل العربى الذى كنت أعرفه من خلال عملى فى الأمم المتحدة. وفى البرقيتين أضفت إلى التهنئة رجاء إعلان الحكومة الجديدة تأييدها للشعب الليبى الذى كان قد بدأ انتفاضته ضد حكم القذافى.

وبانتهاء هذه المحادثة التليفونية غير المكتملة، استأنفت عملى العادى فى صندوق النقد العربى، وكنت قد أبلغت رئيس الصندوق، فى بداية ذلك العام، بأننى لا أرغب فى تجديد عقدى مع الصندوق وإنهاء عملى فيه اعتبارا من أول سبتمبر (سنة2011)، حيث إننى أنوى العودة إلى بلدى فى ذلك الوقت. وفى بداية شهر يوليو اتفقت مع إحدى شركات الشحن على نقل أثاث منزلى ومتعلقاتى من أبى ظبى إلى القاهرة، وعلى أن يتم التغليف والشحن اعتبارا من 22 أغسطس، وحددت إجازتى الصيفية اعتبارا من 14يوليو وحتى 20 أغسطس، للعودة إلى أبى ظبى وإنهاء عملى فى الصندوق، وإتمام الشحن وإجراءات العودة النهائية فى أول سبتمبر التالى.

وفى خلال الأسبوع الأول من يوليو، اتصل بى المهندس إبراهيم المعلم ومعه الدكتور معتز عبدالفتاح، الذى كان يعمل مستشارا سياسيا لرئيس الوزراء، وكان تساؤلهما عما إذا كنت على استعداد لقبول منصب رفيع فى الحكومة المصرية، والمشاركة فى وزارة الدكتور شرف. فأبديت موافقتى المبدئية على أساس أن تكون لى صلاحيات مناسبة فى إدارة الشئون الاقتصادية. وبعد ذلك بيوم أو يومين، اتصل بى الدكتور معتز عارضا، باسم رئيس الوزراء، تولى منصب نائب رئيس مجلس الوزراء للشئون الاقتصادية، فأفدته بأن هذا شرف وتكريم، ولكنى أرى أن منصب نائب رئيس الوزراء ليس له سلطة تنفيذية ولا جهاز يعاونه، فضلا عن أن المعلومات تكون عادة فى الوزارات، خاصة وزارة المالية. ولذلك فإن فاعلية نائب رئيس الوزراء تتطلب أن يكون وزيرا للمالية أيضا. وبعدها اتصل بى الدكتور معتز مجددا ومؤكدا الموافقة على اقتراحى، وطلب الإسراع بالعودة إلى مصر. فقدمت موعد عودتى يوما واحدا، وعدت إلى القاهرة فى 13 يوليو. وبعد وصولى إلى القاهرة، وبمجرد دخولى منزلى، وقبل أن أضع حقائبى على الأرض، جاءنى اتصال هاتفى من الدكتور عصام شرف، الذى ذكرت له أننى وصلت للتو، فأجابنى بأنه يتابع رحلتى، وأكد العرض واتفقنا على الالتقاء فى اليوم التالى. وعند مقابلتى الدكتور شرف ذكرت له ما تم من حديث مع الدكتور معتز، فأجاب بأنه فهم أن المقصود هو شغلى منصب نائب رئيس الوزراء للشئون الاقتصادية فقط.

فأوضحت له أن نائب رئيس الوزراء دون معلومات يكون كالأعمى، وأنه بدون جهاز معاون يكون كالأكتع، أى بدون فاعلية، ولذلك فإننى أصر على تولى منصب وزير المالية. وكان أن اقتنع بهذا الرأى. وفى مقابلة لاحقة مع السيد المشير طنطاوى والفريق عنان، أعيد طرح الموضوع. وأخيرا، وبعد عدة محاورات تمت الموافقة على اقتراحى، وصدر قرار رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتعيينى نائبا لرئيس مجلس الوزراء للشئون الاقتصادية ووزيرا للمالية، فى 22 يوليو، وبدأت مهمتى فى الحكومة.


خلفيات ضرورية بين المهم والعاجل:

كان من الطبيعى بعد انتهاء مراسم التعيين وحلف اليمين، أن أصفو إلى نفسى متسائلا: وماذا بعد؟ لقد كتبت لسنوات طويلة عن العديد من القضايا العامة، والآن، وقد أصبحت فى مركز المسئولية، فماذا أنا فاعل؟ لابد من قدر من الوضوح الذهنى، حتى يمكن أن أخطو الخطوة الأولى.

جاءت الفكرة الأولى التى سيطرت على ذهنى آنذاك بضرورة التفرقة بين ما هو مهم وما هو عاجل، وعدم الخلط بينهما. فأما عن الأمور المهمة لوطننا فى تحديد الأولويات لتقدم الأمة، فقد كانت هذه الأمور موضع اهتمامى وكتاباتى خلال السنوات الماضية. ولا بأس من إعادة التذكير بها. وقد سبق أن عبرت فى كتابات حديثة وأحاديث تليفزيونية عما أعتبره رؤية إستراتيجية اقتصادية، وهى تقوم على عدة عناصر:

أ سياسية سكانية واعية: فقد عرفت مصر زيادة سكانية مستمرة دون انقطاع منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى الآن، فى حين كانت التنمية الاقتصادية والاجتماعية مترددة وغير مستقرة، مما أدى إلى اختلال اقتصادى واجتماعى غير خافٍ. كذلك لا ننسى أنه برغم أن مساحة أراضى مصر شاسعة نسبيا، فإن أغلب هذه المساحة صحراوية، ومواردها الطبيعية محدودة نسبيا بالمقارنة بالدول الغنية بالثروات الطبيعية مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو روسيا أو البرازيل أو كندا أو حتى الهند أو الصين. فموارد الطاقة محدودة فى مصر، فهى تنحصر فى كمية قليلة من البترول والغاز، مع عدم وجود مساقط مياه لتوليد الكهرباء مثل الهند، ومع انعدام للفحم كما الصين مثلا، أو الغابات مثل إندونيسيا أو ماليزيا. وهكذا فإن الضغط السكانى الذى يتضاعف كل ثلاثين سنة تقريبا يمثل عبئا شديدا على مستقبل التنمية. ومن هنا فأى إستراتيجية للمستقبل لا بد أن تتضمن محورا للسياسة السكانية بحيث يمكن ضبط هذا التضخم السكانى فى المستقبل.

ب إستراتيجية صناعية: لا يتحقق التقدم لمجرد وجود موارد طبيعية، وإنما هو نتيجة لقدرة الإنسان على استغلال الوسط أو البيئة المحيطة. ومن هنا، فقد كان التقدم البشرى، نتيجة لزيادة كفاءة الإنسان فى التعامل مع هذا الوسط، وهذا هو ما يعرف بالتقدم التكنولوجى. وقد عرفت البشرية ثورتين تكنولوجيتين، الأولى عند اكتشاف الزراعة منذ حوالى عشرة آلاف سنة، عندما استطاع الإنسان ترويض الأرض والنبات والحيوان بالإنتاج الزراعى. فبدأ استقرار الجماعات ونشأة المدن ثم الحضارات الكبرى. ثم جاءت الثروة الصناعية منذ حوالى ثلاثة قرون عندما استطاع الإنسان تسخير قوى الطبيعة ومصادر الطاقة لخدمته فى تطويع المعادن والمواد الطبيعية، ومع ثورة البخار تم اكتشاف الكهرباء وغيرها من مصادر الطاقة. والآن فإننا ندخل فى مرحلة جديدة من الثورة التكنولوجية فى مجالات المعلومات والاتصالات والعلوم البيولوجية. والمجال الرئيسى لهذا التطور التكنولوجى هو الصناعة التحويلية بشكل خاص. ومن هنا، فإن التقدم الاقتصادى أصبح رهنا بمدى القدرة الصناعية وإمكانات تطورها التكنولوجى، الأمر الذى يتطلب إستراتيجية واعية لتطور التكنولوجيا وتطبيقها فى المجالات الصناعية المختلفة.

وغنى عن البيان أن الصناعة الحديثة هى بطبيعتها ذات توجه عالمى، ومن ثم فإن الأخذ بإستراتيجية صناعية يتطلب نظرة عالمية واسعة، باختيار الصناعات الأكثر قدرة على التطور مع عقد التحالفات الإستراتيجية مع معظم المراكز الصناعية المتقدمة. فلا تستطيع دولة أن تقيم صناعة متقدمة ومتطورة إذا عزلت نفسها عن التطور العالمى.

ج ثورة تعليمية وقفزة فى ميدان التدريب: إذا كانت الثورة الصناعية الأولى خلال النصف الثانى من القرن الثامن عشر، ثم بداية القرن التاسع عشر تقوم على التجربة والخبرة العملية، فإن أساس التقدم التكنولوجى المعاصر هو العلم والمعرفة. ولذلك فإنه من المستحيل الدخول فى مجالات الصناعة الحديثة والقدرة على استمرار تطويرها دون وجود مؤسسات تعليمية وبحثية متقدمة، مع إمكانات تدريبية قادرة ومتطورة. وهكذا فليس من الممكن تحقيق قفزة صناعية دون ثورة تعليمية وتدريبية. وبالمثل فإن نجاح السياسات السكانية يتطلب، بدوره، توعية وتنمية ثقافية مستمرة. وهكذا فإن تحقيق العنصرين الأولين من سياسة سكانية واعية وإستراتيجية صناعية رهن بتوفير مناخ تعليمى وتدريبى وثقافى مناسب.

د عدالة اجتماعية: لا يتحقق التقدم بمجرد تحقيق معدلات عالية للنمو، وإنما لابد أن يصاحب ذلك شعور المواطن بالعدالة والمساواة فى الفرص المتاحة أمامه. ولا شك أن الارتفاع بمستوى التعليم يزيد من الوعى بحقوق المواطن، كما أن التقدم الصناعى يساعد فى معظم الأحوال على اتساع قاعدة المستفيدين من النمو. ولكن الأمر يتطلب فوق كل ذلك سياسة اجتماعية واعية لتحقيق الشعور بالعدل والإنصاف وتوفير العدالة فى الفرص والمزايا. ويرتبط بذلك ضرورة وجود نظام سياسى ديمقراطى يقوم على الشفافية والمساءلة.

ه إطار إقليمى للتعاون العربى: لم يعد من الممكن تحقيق قفزة تنموية قوية فى إطار قطرى أو محلى، وإنما ينبغى أن يتم ذلك فى إطار إقليمى.

وترتبط مصر بوسطها العربى ارتباطا عضويا، فضلا عن التكامل الجغرافى والحضارى بين شعوبها. وتواجه المنطقة فى مجموعها تحديات كبيرة تتطلب تعاونا وثيقا وبناء. وبذلك فإن العمل من أجل تنمية اقتصادية واجتماعية عربية يعتبر أمرا جوهريا لأى نظرة مستقبلية لمصر.


ماذا عن العاجل؟

كل ما تقدم صحيح وضرورى، ولكن مصر تواجه الآن ظروفا خطيرة واستثنائية، تتطلب مواجهة سريعة وحاسمة. ومن هنا، فإن العاجل لا يقل أهمية عن المهم، بل يحتاج إلى تركيز الاهتمام به لأنه مرتبط بأمد قريب ويهدد المستقبل نفسه. ولذلك فإنه من الضرورى، مع وجود نظرة شاملة ورؤية متكاملة للمستقبل، عدم إهمال الواقع القائم والمشكلات العاجلة التى تتطلب حلولا سريعة ومباشرة ولا تتحمل التأجيل. والحكومة الانتقالية تتحمل المسئولية الأساسية فى مواجهة هذه القضايا العاجلة التى لا تقبل الانتظار.

وهكذا بدا لى أن المهمة الرئيسية لدورى فى الوزارة الجديدة هو التركيز على القضايا العاجلة التى تتطلب مواجهة سريعة وحاسمة، على أن يتم ذلك فى إطار نظرة عامة للرؤية الشاملة المستقبلية. وبدأت أتساءل عن عدد من القضايا التى ينبغى التركيز عليها فى فترة الحكومة الانتقالية، والتى لا يمكن تأجيلها لحين الانتهاء من الإعداد لنظام الحكم الدائم بعد الدستور وتكوين المؤسسات السياسية الدائمة. وكانت نقطة البدء هى ضرورة النظر فى أوضاع الاقتصاد المصرى لتحديد نقطة الانطلاق. فهناك وثيقتان لا يمكن إغفالهما عند النظر فى وضع السياسات المالية والنقدية للحكومة. وإذا كانت الموازنة هى الوثيقة الأولى، فإن ميزان المدفوعات هو الوثيقة المكملة، وذلك لتحديد أوضاع الاقتصاد القومى إزاء العالم الخارجى.


المعالم الرئيسية للموازنة العامة:

ليس الغرض هنا التعرض لتفاصيل الموازنة العامة كافة، وإنما فقط التركيز على الخصائص العامة التى يمكن أن تؤثر على قدرة الاقتصاد المصرى على الانطلاق فى المستقبل القريب.

تبلغ جملة الإنفاق فى ميزانية 2011/2012 مبلغ 490٬6 مليار جنيه، وجملة الإيرادات حوالى 350 مليار جنيه، بعجز حوالى 140 مليار جنيه يخفض إلى 134 مليارا بعد حساب صافى حيازة الأصول المالية. فالخاصية الأولى للموازنة هى أنها تنطوى على عجز يمثل حوالى 27 % من حجم الإنفاق الإجمالى. وبذلك فأكثر من ربع كل جنيه تنفقه الحكومة لا يأتى من موارد مالية حقيقية للدولة، وإنما يتم تمويله إما بالإقراض وبالتالى تحميل الأجيال القادمة عبء سداد هذه القروض، وإما بنوع من أنواع التضخم الذى يرفع الأسعار ويخفض القيمة الحقيقية للنقود.

وعند النظر إلى باقى عناصر الإنفاق، فإننا نجد أن أهم عنصرين هما على التوالى: الدعم ويبلغ حوالى 157 مليار دولار بنسبة تصل إلى 32% من حجم الإنفاق، ثم فوائد خدمة الدين العام وتبلغ حوالى 106 مليارات جنيه بنسبة 22% من حجم الإنفاق. وهكذا يستنفد هذان البندان (الدعم وفوائد خدمة الدين) حوالى 55% من حجم الموازنة، أى إن وزير المالية ليس أمامه لتوزيع الإنفاق على مختلف الحاجات العامة إلا أقل من نصف حجم الإنفاق العام (45%). وفى هذا إخلال بدور الدولة فى القيام بوظائفها الأساسية فى الأمن والدفاع والعدالة وتوفير التعليم والصحة والخدمات العامة وتكوين البنية الأساسية وغيرها من عناصر التقدم. وعند مزيد من التدقيق فى بند الدعم نجد أن أكثر من (60%) من قيمة الدعم يذهب إلى دعم المواد البترولية، والذى بلغ فى ميزانية هذا العام حوالى 95 مليار جنيه، ويتوقع أن يزيد هذا الرقم عند إقفال الحسابات الختامية.

والظاهرة المقلقة هى أن دعم المواد البترولية كان فى عام 1990 1991 حوالى مليار جنيه، ثم ارتفع خلال العقدين الماضيين إلى أكثر من 95 ضعفا، وتعتبر مصر (ربما باستثناء بعض دول الخليج) أرخص بلد فى العالم فى أسعار الطاقة. والسؤال: هل يذهب هذا الدعم كله إلى المستحقين؟ هناك صناعات مربحة (بعضها يحقق أعلى معدلات للأرباح العالمية) حيث تشترى المواد البترولية المدعمة، لكى تبيع إنتاجها فى السوق وفقا للأسعار العالمية.

وإذا كان رقم دعم المواد البترولية يصل إلى 95 مليار جنيه، فإن دعم السولار وحده يجاوز نصف هذه القيمة. حقا يستخدم السولار فى معظم وسائل النقل، ولكنه يستخدم أيضا فى اليخوت السياحية، كما فى أرقى الفنادق، والأخطر من ذلك هو أنه يُهرب كذلك إلى الخارج.

وماذا عند البند الآخر، وهو الخاص «بفوائد خدمة الدين»؟ والملاحظة الأساسية هنا هى أن هذا البند إنما هو نتيجة لعجز السنوات الماضية. فإذا نظرنا إلى السنة الجارية وحدها، ونقارن الإنفاق والإيرادات لهذه السنة (2011/2012)، فإن العجز الأولى لهذه السنة وحدها لم يتجاوز 28 مليار جنيه. والسؤال: لماذا وصل العجز إلى 134مليار جنيه؟ الإجابة هى أننا ندفع فوائد عن الدين العام المتراكم من السنوات السابقة حوالى 106 مليارات جنيه. ومع ارتفاع أسعار الفائدة، فمن المتوقع أن يزيد هذا الرقم عند نهاية العام الحالى. وهكذا ارتفع هذا العجز الأولى إلى عجز فى الميزانية بلغ 134مليار جنيه بسبب الفوائد المدفوعة عن الدين المتراكم من السنوات السابقة. فمشكلة «بند فوائد خدمة الدين» هو أنه نوع من المرض الوراثى الذى يتنقل من سنة إلى أخرى، ويتضخم بشكل مستمر. فهو أشبه بالمرض الخبيث الذى لا يشفى، وهو مع ذلك يستشرى من عام لآخر حتى يكاد يخنق الموازنة. ولعل أبرز مثال على ذلك هو موازنة الولايات المتحدة الأمريكية حاليا، وهى لا تزال أكبر اقتصاد فى العالم، ومع ذلك فإنها واجهت ما يشبه الإفلاس عند نهاية السنة المالية السابقة، بسبب تزايد عجز الموازنة نتيجة ارتفاع أعباء خدمة الدين الحكومى خلال السنوات السابقة. وعلينا أن نتذكر أن الرئيس كلينتون ترك البيت الأبيض عام 2000، وقد حققت الموازنة فائضا لأول مرة منذ فترة طويلة، ثم جاء الرئيس بوش وحروبه، فبدأ العجز يتزايد حتى كاد يعرض الولايات المتحدة الأمريكية للإفلاس. وتواجه دول أوروبية عديدة مثل هذه المشكلات سواء فى اليونان أو إيطاليا وربما إسبانيا وغيرها.

ويرتبط استمرار عجز الموازنة بتزايد الدين العام. ويقدر حجم الدين العام الإجمالى المتوقع فى نهاية العام بحوالى 1٬140 تريليون جنيه (أى ألف مائة وأربعون مليار جنيه) أكثر من 85% منها دين محلى، والباقى دين أجنبى. فمصر من أقل دول العالم من حيث المديونية الخارجية، وتكلفتها عادة منخفضة ومع فترات سداد طويلة الأجل.

وقد صاحب استمرار العجز الحكومى تناقص فى معدلات فائض السيولة فى القطاع المصرفى، نتيجة لزيادة المطروح من أذون الخزانة والذى تكتتب فيه عادة البنوك المحلية. وكان فائض السيولة فى القطاع المصرفى فى ديسمبر 2010 جاوز 100 مليار جنيه، ثم انخفض إلى ما دون نصف المليار فى سبتمبر 2011.

وأخيرا ينبغى التنبيه إلى أن تحديد صافى حجم الدين المحلى الواقعى ليس بالأمر اليسير، فنتيجة للتداخل الشديد بين المراكز المالية للحكومة والعديد من الهيئات الاقتصادية العامة، فإن تحديد صافى الحجم الحقيقى للدين يصبح أكثر صعوبة. فهناك هيئات عامة اقتصادية مدينة للبنوك بمبالغ ليست هينة، فهل تصبح هذه المديونية جزءا من الدين العام أو لا؟ وسوف نشير إلى هذه الظاهرة بصدد مناقشة التشابكات المالية للهيئات الحكومية والعامة.


ميزان المدفوعات:

ليس المقصود هنا تحليل عناصر ميزان المدفوعات بالتفصيل، وإنما الإشارة فقط إلى أهم المعالم التى تميز هذا الميزان، والتى من شأنها أن تقيد من حرية الحركة لواضع السياسة الاقتصادية. وكان ميزان المدفوعات قد عرف تحسنا ملحوظا فى السنوات الأخيرة قبل قيام ثورة 25 يناير، وجاءت هذه الأحداث فأثرت سلبا على بعض عناصر هذا الميزان مثل السياحة والاستثمارات المباشرة والتوظيفات المالية فى الأسواق المالية. وعلى الرغم من أن عناصر الميزان الأخرى ظلت متماسكة أو حتى تحسنت بعض الشىء، فإن الأثر النهائى على الميزان كان سالبا. فبالرغم من تحسن الصادرات وتحويلات العاملين فى الخارج وعائدات المرور فى قناة السويس، فإن الوضع الإجمالى للميزان قد تراجع خلال الفترة الأخيرة، مما أثر على احتياطيات الأرصدة الأجنبية المتاحة للاقتصاد المصرى.

وكانت معاملات الاقتصاد المصرى مع العالم الخارجى خلال السنة المالية 2010/2011 (يونيو 2011) قد أسفرت عن عجز كلى بميزان المدفوعات بلغ نحو 9٬8 مليار دولار (مقابل فائض كلى بلغ نحو 3٬4 مليار تصوير مجدى إبراهيم

دولار خلال السنة المالية السابقة). وهو ما انعكس فى تناقص صافى الاحتياطيات الدولية للبنك المركزى. ويظهر التحليل أن أسباب هذا العجز ترجع إلى ما ترتب على الأحداث بعد يناير من تأثير، حيث سجل ميزان المدفوعات خلال النصف الثانى من السنة المالية (يناير/ يونيو 2011) عجزا كليا بلغ نحو 10٬3 مليار دولار (مقابل فائض كلى خلال النصف الأول من السنة نفسها بلغ 571 مليون دولار).

وقد عرف الحساب الرأسمالى عجزا مقابل صافى التدفقات إلى الخارج قدره نحو 4٬8 مليار دولار (مقابل صافى تدفق إلى الداخل قدره نحو 8٬3 مليار دولار فى السنة السابقة).

وهكذا أدى تراجع السياحة وانخفاض تدفقات رأس المال للاستثمار المباشر أو التوظيف فى السوق المالية مع خروج بعض هذه الأموال إلى الخارج، أدى كل ذلك إلى تناقص الاحتياطيات من حوالى 36 مليار دولار إلى أقل من عشرين مليار دولار فى نهاية أكتوبر 2011، ويتوقع أن يستمر هذا الاتجاه فى الأشهر القادمة.

ومن الواضح أن هذا التأثير السلبى على ميزان المدفوعات لا يرجع إلى اعتبارات اقتصادية بحتة، بقدر ما هو نتيجة للأوضاع الأمنية غير المستقرة وأجواء عدم اليقين التى تحيط بمستقبل الأوضاع السياسية. ولا يخفى أن اختفاء الأمن وغلبة عدم اليقين حول المستقبل السياسى أمام متخذى القرارات الاقتصادية (خاصة من المستثمرين) هما ألد أعداء الاستقرار والتقدم الاقتصادى.


ماذا يفعل وزير المالية الجديد؟

يمثل الاستعراض السابق ما دار فى ذهنى عند دخولى وزارة المالية لأول مرة، ليس بالألفاظ نفسها، وربما ليس بالوضوح نفسه، ولكن المشكلة كانت واضحة:
هناك أشياء مهمة يحتاجها الاقتصاد المصرى من خلال رؤية متكاملة للمستقبل، ولكن هناك أيضا مشكلات عاجلة لا تتحمل الانتظار، ونحن بصدد حكومة انتقالية مؤقتة. فكيف يكون الاختيار؟ هذا هو السؤال.

حقا لابد لنا من سياسة سكانية واضحة للمستقبل، وكذا إستراتيجية صناعية تعتمد على تطوير التكنولوجيا وتوظيفها، مما يتطلب ثورة تعليمية وإمكانات تدريبية كافية، مع ضرورة توفير الشعور بالعدالة الاجتماعية وتساوى الفرص، وأن يتم ذلك من خلال رؤية قومية تمتد إلى عالمنا العربى فى مجموعه. كل هذا صحيح وضرورى ولا مناص منه.

ولكنَ هناك أزمة طاحنة، وعجزا متزايدا فى الموازنة لابد من ضبطه وتمويله، وإلا انفلتت الأسعار ودبت الفوضى المالية وتهددت المؤسسات المالية والمصرفية. وبالمثل هناك ضغط على ميزان المدفوعات، والاحتياطيات تتآكل كل يوم ونحن بلد يستورد نصف غذائه من الخارج، وتعتمد صناعاته على واردات المواد الخام والسلع الوسيطة والآلات والمعدات من الخارج. هذه معضلة الاختيار بين المهام والعاجل.

بطبيعة الأحوال، فإن الخيار لا يكون مطلقا بالاهتمام الكامل بأحد الجوانب، والإهمال الكلى للجانب الآخر. هذا غير ممكن وغير حكيم. فلابد من التوازن بين الأمرين، مع ضرورة الترجيح وإعطاء الأولوية لأحدهما دون التضحية الكاملة بالأمر الآخر. فماذا سيكون خيار وزير المالية الجديد، وأين يتم التركيز؟

لم يتطلب الأمر منى وقتا طويلا، فقد شعرت بأننا إزاء اقتصاد وطنى ينزف دما، وأن هناك حاجة عاجلة لإسعافه وبأسرع وقت لتعويضه عما فقده من موارد مالية تمثلت فى عجز الموازنة المتزايد، واختلال ميزان المدفوعات، وبداية تآكل الاحتياطيات من الأرصدة الأجنبية. وكانت مصر قد عرفت وضعا مشابها فى نهاية الثمانينيات حيث كان عجز الموازنة فى حدود 20%، من الناتج الإجمالى، والتضخم بمعدلات قريبة من هذا الرقم، وارتفع الدين الخارجى إلى أكثر من 50 مليار دولار، ثم توقفت مصر عن الوفاء ببعض التزاماتها الخارجية، وأصبح وضعها المالى داخليا وخارجيا مقلقا وغير مستقر.

وجاءت حرب الخليج واحتلال العراق لجارتها الكويت، ثم موقف مصر الموفق فى اختيار جانب الصواب أخلاقيا وسياسيا. وترتب على ذلك أن قام المجتمع الدولى بتوفير حزمة من مبادرات الدعم المالى لمصر. وهكذا قامت دول الخليج بإلغاء ديونها على مصر وكانت تبلغ حوالى 7 مليارات دولار، فضلا عما أرسل لمصر آنذاك من دعم فى شكل معونات نقدية، كما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإلغاء ديونها العسكرية على مصر وكانت تبلغ حوالى 7 مليارات دولار هى الأخرى، ثم قامت دول نادى باريس بإلغاء نصف ديونها العامة مع فترات سماح جديدة للديون الباقية. وهكذا انخفض عبء الدين الخارجى إلى أقل من النصف. واستعادت مصر زمام المبادرة، وبدأ الاقتصاد يتنفس، ونجح فى تحقيق معدات نمو محترمة واستقطاب رءوس أموال كثيرة، وإن شابه تحيز لصالح طبقات محددة وإهمال تطلعات الغالبية، مع الكثير من مظاهر الفساد والانحراف، فضلا عن الاستخفاف بمستقبل الحياة السياسية، وفرض مشروع التوريث على المجتمع السياسى. وكانت النتيجة، على ما هو معروف، هى الانتفاضة الهائلة لثورة 25 يناير.


الأمن والاستقرار الاقتصادى

وكان تقديرى للموقف عند دخولى وزارة المالية لأول مرة بعد تشكيل عصام شرف حكومته الثانية، يقوم على العناصر الآتية:

هذه حكومة انتقالية للعبور بمصر إلى مرحلة سياسية جديدة، وإن مسئوليتها هى تحقيق هذا الانتقال بشكل هادئ ومنظم، وإزالة أو التخفيف من المخاطر التى قد تهدد النظام الجديد القادم.

إن الشرط الأول للاستقرار والقدرة على التمهيد للنظام القادم هو ضرورة توفير الأمن للمواطن فى حياته وحقوقه الأساسية وأمواله، والأكثر أهمية هو توفير الشعور بالأمن.

كما أن هناك حاجة إلى توفير قدر من الوضوح حول شكل النظام السياسى القادم. وهذا أمر ضرورى لاستعادة الاستقرار الاقتصادى. فلا يكفى توفير الأمن والاستقرار فى الحاضر إذا كان المستقبل ملغما بالغموض. فالاقتصاد هو تعامل مع المستقبل، وما لم يكن هذا المستقبل واضحا أو قابلا للتخمين، فالغالب أن تتوقف القرارات الاقتصادية لحين وضوح الصورة. فالاقتصاد، والاستثمار بشكل خاص، يستطيع أن يتعايش مع كل الظروف باستثناء عدم اليقين. فالالتباس وعدم اليقين هما أخطر أعداء الاقتصاد.

وأخيرا وليس آخرا، هناك ضرورة حماية الاقتصاد الوطنى من آثار المستجدات التى طرأت على الساحة، وترتب التهديد باختناق الاقتصاد نتيجة لجفاف بعض الموارد المالية مثل إيرادات السياحة أو عزوف الاستثمارات الخارجية، أو هجرة التوظيفات المالية فى الأسواق المالية، بالإضافة إلى الضغوط المالية الجديدة على الخزانة مع الزيادات فى المرتبات والمعاشات والاستجابة إلى العديد من المطالب الفئوية، فضلا عن توقف الإنتاج فى بعض القطاعات نتيجة للإضرابات والاعتصامات. هذه وغيرها، أوضاع أدت إلى ضغوط مالية شديدة يمكن أن تترتب عليها آثار وخيمة على مستقبل الاقتصاد القومى.

وإزاء هذا التوصيف العام والسريع للأوضاع، فقد انتهيت إلى أن مهمتى الأساسية سوف تتركز على النقطة الأخيرة عن ضرورة الإسعاف السريع للاقتصاد. فالأمن هو مسئولية الحكومة مجتمعة ووزير الداخلية بوجه خاص، ومستقبل النظام السياسى هو مسئولية المجلس الأعلى للقوات المسلحة والحكومة مجتمعة فضلا عن مختلف القوى السياسية، أما حماية الاقتصاد الوطنى وضمان الاستقرار للمؤسسات المالية والاقتصادية، فهو المسئولية الأولى لنائب رئيس الوزراء للشئون الاقتصادية ووزير المالية. ولكل ذلك فقد حرصت على ضرورة التفكير فى عدد محدود من القضايا الملحة التى ينبغى البدء بها لإعطاء المؤشرات المناسبة لتأكيد حرص الحكومة على استعادة الاستقرار الاقتصادى، وأن تكون الإجراءات المعلنة واضحة ومحددة وليست مجرد كلمات فضفاضة، بل لابد أن ترتبط بإنجازات محددة وملموسة على الأرض، وألا تقتصر آثارها على ما يتحقق لها من نتائج مباشرة، بل بما تتضمنه أيضا من رسائل وإشارات للمجتمع فى الداخل والخارج.


المهمة العاجلة

وكانت المهمة العاجلة والواضحة هى ضرورة ضمان توفير موارد مالية كافية وسريعة ومناسبة لإيقاف النزيف الذى يتعرض له الاقتصاد. فعجز الموازنة ليس فقط مرتفعا، بل إنه معرض للزيادة، وخاصة أننى اكتشفت مبكرا، أن احتياجات قطاع البترول من موارد الموازنة أكبر بكثير مما يظهر فى أرقام الموازنة المنشورة. كذلك فإن هذا العجز المالى المتزايد لن يقتصر على زيادة الأعباء المالية المحلية للموازنة بما قد يؤدى إلى مزيد من الضغوط التضخمية، بل إنه سوف ينعكس على أوضاع ميزان المدفوعات واستنزاف الاحتياطيات الدولية. وقد بلغ متوسط الاستنزاف من موارد الاحتياطى حوالى مليار ونصف المليار شهريا، حيث فقدت هذه الاحتياطيات ما يزيد على عشرة مليارات دولار بنهاية موازنة 2010/ 2011 فى نهاية شهر يونيو2011.

وفى الوقت نفسه، فإنه لا يكفى البحث عن موارد لسد فجوة العجز، بل لابد أن يصاحبها البدء فى إجراءات عملية لمواجهة أسباب العجز. وفى ضوء القراءة السريعة لخصائص الموازنة، والتى أشرت إلى أهمها، فقد وجدت أن المرض الرئيسى فى الاقتصاد المصرى هو التوسع السرطانى فى بند الدعم وما يرتبط به من تزايد فى مديونية الحكومة، وتضخم بند خدمة الدين من دفع الفوائد والأقساط. وهكذا تستحق هذه القضية بداية المواجهة. ومع ذلك فإن قضية الدعم تثير، جانبا حساسا وهو أن الدعم موجه، فى الأصل، لحماية الطبقات الفقيرة وغير القادرة، ولذلك فإن مواجهة هذه القضية الحساسة لا بد أن تتم مع مراعاة أوضاع مستحقى الدعم من الطبقات الفقيرة والضعيفة اقتصاديا.

ولكن لا ننسى أن التطبيق العملى لسياسات الدعم، قد تحول فى العمل، فى كثير من الأحوال، إلى مصدر للكسب السريع لفئات أخرى تستغل الدعم وتحوله لتحقيق أرباح هائلة وغير مشروعة باسم الدعم. وهكذا فإن قضية الدعم لا بد أن تكون فى صلب أى حزمة للإصلاح الاقتصادى السريع، وأن تعالج بكل مسئولية ورؤية لتؤكد جدية المحاولة من ناحية، وتوفير الضمانات لحماية مستحقى الرعاية، وبحيث لا يستخدم الدعم فى غير أغراضه المشروعة من ناحية أخرى.

وأخيرا، فإنه ينبغى الاعتراف بأن أى محاولة للإصلاح الاقتصادى لن تكون بلا ثمن وأنها سوف تنطوى على تحمل التضحيات فى المدة القصيرة، وأن هذا الثمن لا بد أن يدفع لضمان تحقيق فوائد جمة على الاقتصاد فى مجموعه فى المدة الطويلة. ولذلك، فإن أى حكومة راغبة فى الإصلاح لابد لها أن تتمتع بقدر كبير من المصداقية والتأييد الشعبى. فالشعوب تقبل التضحيات إذا كانت ضرورية ولكن بشرط الاطمئنان لمصداقية المسئولين ونزاهتهم وصدق نواياهم، فضلا عن كفاءتهم المهنية. ولكل ذلك، فمن الضرورى أن تقدم الحكومات من المبادرات والإجراءات ما يعيد الثقة والمصداقية إلى القائمين على تولى الأمور. ونظرا إلى أن أحد أهم مظاهر رعاية مصالح المجتمع يتطلب الحرص على المال العام وعدم تسخيره لمصالح كبار العاملين فى الحكومة، فإن موضوع ما يحصل عليه هؤلاء من دخول من المال العام تحت مسميات مختلفة من أجور ومرتبات ومكافآت وبدلات وحوافز وغير ذلك، قد أصبح من أكبر مصادر الشكوى. وقد تواترت فى الآونة الأخيرة الأنباء عن دخول ومرتبات مبالغ فيها يتحصل عليها عدد محدود من كبار العاملين وغيرهم من المحظوظين. لذلك فقد أصبح موضوع وضع بعض الضوابط على الحدود القصوى لدخول العاملين فى الحكومة من أهم المطالبات الشعبية، مما يتطلب من الحكومة اتخاذ إجراءات فى هذا الصدد. بما يعيد الثقة إلى الشارع فى نزاهة الحكم ومصداقيته.


ثلاثة أهداف مرحلية

ولكل ما تقدم، فقد حددت لنفسى منذ اليوم الأول لدخولى الوزارة ثلاثة أهداف مرحلية محددة، إلى جانب متابعة السير اليومى للوزارة، وقد حددت لهذه الإجراءات ستة أشهر تنتهى مع بداية عام 2012، وهذه الإجراءات هى على التوالى:

النظر فى وضع ضوابط على الحدود القصوى للمرتبات من المال العام للعاملين فى الحكومة، على أن يطبق ذلك من أول يناير 2012.

توفير أكبر قدر من الموارد المالية لدعم الموازنة واستقرار ميزان المدفوعات، وبما لا يعرض الاستقرار المالى والنقدى لأى هزات، وخاصة من الدول العربية الشقيقة والمؤسسات المالية الدولية والإقليمية.

البدء فى برنامج جاد لترشيد الدعم وخاصة فى المواد البترولية والطاقة وتنفيذ المرحلة الأولى منه، بما لا يمس أوضاع الطبقات الفقيرة والضعيفة اقتصاديا.

وبطبيعة الأحوال، فإن هذه الملفات الثلاثة لا تعنى إهمال الجوانب العامة الأخرى للإدارة المالية مثل ترشيد الإنفاق بصفة عامة، وإعادة النظر فى مصادر الإيرادات وتحسين مجالات التحصيل.

وقد يكون من المفيد هنا أن أشير إلى فهمى لطبيعة «اقتصاد السوق» الذى دافعت عنه خلال وجودى فى الحكومة، والذى أثار تلميحا من بعض الزملاء فى الوزارة ما يفيد أنهم يرفضون مفهوم اقتصاد السوق. وقد حرصت طوال وجودى فى الحكومة على التأكيد على أن الحكومة تؤمن بنظام «اقتصاد السوق»، واحترام الحقوق والحريات وحماية الملكية، مع توفير العدالة الاجتماعية والمساواة فى الفرص.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.