تناولت الدولة المصرية ممثلة في رئيس الجمهورية ووزارة الخارجية، أزمة الجزر المصرية (تيران وصنافير)، بالتركيز على الأبعاد التاريخية والجغرافية للجزر، وهو ما دفع القوي السياسية المعارضة لاستخدام نفس المنهج التاريخي والجغرافي لإثبات أحقية مصر في السيطرة والسيادة على الجزيرتين المصريتين (تيران وصنافير)، وعلى الرغم من أهمية هذين المدخلين "التاريخي والجغرافي"، فإن توقيت الاتفاق يضع العديد من علامات الاستفهام، ويطرح تساؤلا حول لماذا تسعى المملكة العربية السعودية لامتلاك الجزيرتين المصريتين (تيران وصنافير)؟ وقد عرضنا جانبا من التفسير في المقالة السابقة ويمكن استكمال باقي التحليل انطلاقا من مدخل التحولات الداخلية بالمملكة العربية السعودية، والتي انعكست بالضرورة على ملامح السياسة الخارجية ومنها العلاقات السعودية الإسرائيلية. (١) الأمير الشاب تمر المملكة العربية السعودية بتحولات متعددة الأبعاد لم تشهدها المملكة من قبل، ويأتي مشهد انتقال السلطة إلى جيل الأحفاد كتحول رئيسي يؤثر في إعادة صياغة نمط وشكل الحكم، أي الانتقال من نظام (المملكة الأخوية) إلى نظام (المملكة الوراثية) من الأب إلى الابن وهو ما سوف يحدث في حالة نقل الحكم للأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد. ومن جانب آخر، تشهد المملكة تحولات استراتيجية في نمط دورها الإقليمي بالانتقال من استراتيجية الاعتماد على الآخر في لعب دور عسكري خارجي أو ما يسمي مفهوم الحرب بالوكالة إلى استراتيجية التدخل المباشر بقوات عسكرية سعودية في معارك خارج حدودها كما يحدث في الحرب باليمن، إضافة إلى إرهاصات تشكيل التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، تلك التحولات الاستراتيجية في بنية حكم المملكة يأتي اسم الأمير الشاب محمد بن سلمان ولي ولي العهد وزير الدفاع السعودي كلاعب رئيسي في تلك التحولات بل يمكن اعتباره اللاعب الأوحد، الذي أعاد صياغة الركائز الحاكمة للدبلوماسية السعودية التقليدية من مفهوم الدبلوماسية الحذرة لأعضاء العائلة الحاكمة القدماء إلى سياسة التدخل السريعة والمندفعة في الكثير من ملفات المنطقة، في محاولة لوضع الرياض كقوة إقليمية "سنية" في مواجهة إيران كقوة إقليمية "شيعية"، تلك السياسة جعلت من التقارب السعودي الإسرائيلي ضرورة حتمية يساعد في مواجهة التهديد الإيراني من وجهة نظر المملكة العربية السعودية، ويعطي قوة للأمير محمد بن سلمان، في ترجيح موازين القوى داخل المملكة لصالحه في مرحلة "الحسم"، أو ما يمكن أن نطلق عليه مرحلة ما بعد الملك سلمان بن عبد العزيز. ولتحقيق هذا التقارب تنوعت التكتيكات كمرحلة أولى للوصول لإقامة علاقات سياسية ودبلوماسية معلنة بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، تلك التكتيكات في تصور الأمير الشاب لا بد أن تتجاوز مبادرة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز (الأرض مقابل السلام) التي طرحت في القمة العربية بيروت، والتي تم الربط بين إقامة دولة فلسطينية على حدود ٦٧ وبين السلام مع إسرائيل، فقد تجاوز الأمير الشاب هذه القاعدة والتي يرى صعوبة تحقيقها في وقت ضيق، وهو ما جعل البحث عن مدخل جديد لتحقيق تلك العلاقة. (٢) 14 فبراير 2016 انعقاد مؤتمر ميونخ للأمن واحد من أهم المؤتمرات الدولية للأمن الدولي يصافح وزير الدفاع الإسرائيلي "موشيه يعالون" الأمير السعودي تركي الفيصل، رئيس جهاز المخابرات السعودي السابق وسفير المملكة العربية السعودية السابق في الولاياتالمتحدةالأمريكية وواحد من المقربين من الأمير محمد بن سلمان، وقد تناولت العديد من مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الدولية تقريرا عن اجتماع عقد بين الجانبين على هامش اجتماعات مؤتمر ميونخ للأمن، وفي أقل من ٢٤ ساعة من المصافحة بين وزير الدافاع الإسرائيلي والأمير السعودي تركي الفيصل، يصرح موشيه يعالون وزير الدفاع الإسرائيلي "أن إسرائيل ترى في المملكة العربية السعودية قائدا للمحور السني المناهض لإيران". (٣) الجنرال أنور عشقي الكاتب ومدير مركز الدراسات الاستراتيجية والقانونية بالمملكة العربية السعودية وواحد من منظري إقامة علاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل. مهد الدكتور أنور عشقي المقرب بقوة من الأمير محمد بن سلمان الطريق لتطبيق الرؤية السعودية الجديدة، حيث تعددت اللقاءات بين الدكتور عشقي والعديد من المسئولين الإسرائيليين وكان أكثر اللقاءات أهمية اللقاء الذي جمع الدكتور أنور عشقي ودوري جولد مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية. (٤) مصالح مشتركة وعدو مشترك ساعد الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة (٥+١)، ومحاولات الولاياتالمتحدةالامريكية إعادة تحسين العلاقات مع إيران لحدوث تقارب بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل وصل إلى مرحلة الاتفاق في مهددات الأمن القومي المشترك، حيث أعلن الكاتب الإسرائيلي" أمير أورون" أن إيجاد حل للتهديد النووي الإيراني يأتي بقيام إسرائيل بمساعدة المملكة العربية السعودية في الحصول على تكنولوجيا نووية، مما يحدث توازنا للسلاح النووي في المنطقة ويقضي على احتكار إيران للسلاح النووي. (٥) المملكة بين المحمدين يعتبر الأمير محمد بن نايف واحدًا من الأسماء الأقرب لنمط وطريقة حكم الملك عبد الله بن عبد العزيز، حيث يعتبر من الأمراء الإصلاحيين إن جاز التعبير في العديد من الملفات سواء على مستوى الشأن الداخلي أو الخارجي، فالأمير محمد بن نايف، لديه رؤية إصلاحية لدور النساء والإعلام والمثقفين بمزيد من الحرية بجانب اقتراب سياساته الخارجية من طريق ورؤية الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز وهو ما يجعله الأقرب لمصر وحتى إيران، ويأتي الأمير الشاب محمد بن سلمان الذي يسعى لإعادة نمط التحالف القائم بين السياسي والديني، فالأمير محمد هو صاحب تكتيك إعادة صياغة التحالف مع حزب التجمع من أجل الإصلاح (الإخوان المسلمين) في اليمن، وإعادة تطوير العلاقة مع التيار السلفي المحافظ في المملكة وخارجها، بفتح جبهات خارجية متعددة كما حدث في أزمة اليمن وإعلان التحالف الإسلامي العسكري للحرب على الإرهاب، هذا التغيير السريع في سياسات المملكة يمكن أن يهدد بقاء المملكة والاستقرار في المنطقة بأكملها، وهو ما أكد عليه تقرير المخابرات الألمانية وبعض التقارير الدولية، ففي تقرير تحليلي أعده جهاز "بي إن دي" -جهاز الاستخبارات الألمانية الخارجية- نبه الأخير إلى "سياسة الاندفاع والتسرع في التدخل للقيادة الجديدة في السعودية التي من شأنها أن تزعزع الاستقرار في العالم العربي". وبالقياس على أزمة الجزيرتين المصريتين نجد حالة من الاندفاع السعودي لحسم العلاقة مع إسرائيل فتكون الجزر المصرية (تيران وصنافير) مدخلا لعلاقات سياسية وعسكرية تساعد على إعادة تشكيل ميزان القوي الأمني في الأقليم بتشكيل تحالف أمني إسرائيلي سعودي يتسع ليشمل تركيا والأردن وقطر ومصر، فهل ستتحقق رؤية الأمير الشاب أم ستكون الأحداث الداخلية بالمملكة والعلاقات المصرية التركية عقبة في تحقيق ذلك؟ (٦) الاتفاق الحدودي لم يكن على جدول القمة سعت المملكة العربية السعودية لحسم موضوع الجزيرتين المصريتين، في هذا التوقيت ليس بهدف أحقية المملكة العربية السعودية التاريخية "المشكوك في صحتها"، وليس بهدف ترسيم الحدود لإتاحة المجال لمصر والمملكة العربية السعودية للاستفادة الاقتصادية بالمجال البحري بل قيمة الجزيرتين المصريتين في هذا التوقيت مهم، لتكون منفذا ومعبرا بين المملكة السعودية وإسرائيل. فعلى الرغم من استمرار التفاوض بين الدولتين لأكثر من خمس سنوات كما أعلن الجانبان فإن التوقيع على اتفاق تعيين الحدود البحرية، يوم ٨ إبريل الحالي، لم يكن ضمن خطة الاتفاقات النهائية بين الملك سلمان والرئيس السيسي، فوصول الأمير محمد بن سلمان لمصر قبل موعد زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز يرجح من احتمالية محاولة الأمير الشاب حسم الأمر ووضع الاتفاق ضمن الاتفاقات التي ستوقع بين البلدين وهذا ما حدث. (٧) في نهاية القول نعم حدثت أزمة عنيفة في مصر ما زالت توابعها مستمرة، بدايتها أزمة الجزيرتين المصريتين "تيران وصنافير"، ونهايتها لا يعلمها إلا الله، فهل يمكن للدولة والسلطة المصرية أن تعالج تلك الأزمة؟ نعم هناك العديد من السيناريوهات يمكن للسلطة المصرية أن تختار بينها لحل تلك الأزمة الممتدة ليس من حيث الوقت ولكن من حيث التأثير المباشر وغير المباشر على العديد من الملفات الداخلية الأخرى، ويمكن أن نطرح في أحد المقالات القادمة تلك السيناريوهات المتاحة لمعالجة تلك الأزمة.