ثورة العوالم الافتراضية تبدو أقرب إلى الثورة الدائمة فى المجال الاتصالى، ولاسيما المواقع الاجتماعية كالفيس بوك وتويتر ونظائرهم، حيث ساهمت فى سرعة وفورية الاتصال ومعرفة الأخبار العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والشخصية والعائلية، وبين زمر الرفاق والأصدقاء فورًا فى زمن حدوثها، بل وفى بث الصور والفيديوهات على نحو بات يسبق أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، بل استطاعت أن تجبر عديد الصحف الكبرى زائعة الصيت على أن تتحول من الورقى إلى الرقمى، آخرها الأندبندنت، والسفير فى لبنان وسيلحق بها النهار. ثورة رقمية كبرى تساهم فى تغيير أنماط الحياة الشخصية والجماعية على نحو لم تستطع ثورات التقنيات أن تحدثه رغما عن دورها فى زلزلة مفاهيم ومعانى، وأنماط من العلاقات الاجتماعية من التقليدية إلى الحديثة وما بعدها، فى ظل الثورات التقنية الأولى والثانية والثالثة، حيث أدى ذلك إلى اتساع قاعدة ومساحات التصنيع فى حياة المجتمعات الغربية، وفى اليابان على نحو تطورت معه هذه البلدان، ومعها الرأسمالية العالمية إلى آفاق بعيدة. ثورة الواقع الافتراضى الدائمة، تساهم فى كسر العلاقات التقليدية الأسرية والقرابية والعائلية، والقيم والرموز التى تؤطرها، وذلك نحو الفردية وإنتاج الفرد والإرادة الفردية، وتفتح الأبواب المغلقة أمام العوالم والتجارب والرموز الكونية بحيث بات بعضها يستهلك على الواقع الافتراضى والفعلى معاً. من هنا نستطيع القول أن اللغة الافتراضية باتت مبادرة وهجومية سياسياً، إزاء خطابات السلطات السياسية أيا كانت تسلطية أو ديكتاتورية، أو ديمقراطية وتؤثر على السياسات والقرارات وعلى الطبقات السياسية الحاكمة والمعارضة من خلال تأثير الافتراضى على الواقعى والتداخل فيما بين الفضاءات الافتراضية والفعلية، من خلال خطاب التغريدات على تويتر والفيس بوك، من خلال الحملات الرقمية، واللغة المختصرة والموجزة العامية والفصحى ولغة الحروف والأرقام المتداخلة. ثمة لغة بوح وتعبير عن الرغبات والحواس المتقدة ولغة الشارع الجارحة التى تستخدم للهجوم على رجال السياسة وأجهزة الدولة وإسقاط هيبتهم. أحد أدوار الثورة الافتراضية المستمرة والدائمة أنها تمثل أحد أدوات الحشد والتعبئة الجماهيرية على نحو ما حدث فى الانتفاضات العربية، إلا أنها شكلت أحد الأدوات فى السعى إلى الهجوم على هيكل المحرمات الأخرى فى المجتمعات العربية والإسلامية على رجال الدين والمؤسسات الدينية وخطاباتهم الدينية الوضعية والكشف عن تناقضاتها، ولا تاريخية غالبها ومجافاة بعضها لإشكاليات ومشكلات الواقع المعاصر للمسلم، أو المسيحى العربى. بعض خطابات اللا دينيين باتت أكثر جرأة فى الهجوم على بعض العقائد والأفكار الدينية الفقهية واللاهوتية، وهو الأمر الذى بات يشكل أحد تحديات الفكر الدينى الوضعى السائد، والذى ستدفع بعضه إلى التجديد والإصلاح الدينى حتى يستطيع مواجهة هذه التحديات والبحث عن إجابات عن أسئلة جديدة يطرحها العالم المعاصر على الإنسان فى القيم والسياسة والاقتصاد والحياة الشخصية، والثقافة.. الخ. الثورة الرقمية الدائمة باتت مؤثرة على السرد من حيث ضرورة الإيجاز وأشكال التعبير الأدبى وتخييلاته، بل وعلى الفنون التشكيلية على اختلافها وتعددها وتداخلها وعلى السينما. ثورة حواسية وشبقية وجنسية عارمة وغير مألوفة وتستهلكها كتل اجتماعية متنوعة وضخمة فى عالمنا المعولم وما بعده، سواء فى الدول الأكثر تطوراً، أو فى دول الجنوب على تعددها واختلافها، وعلى رأسها الدول الإسلامية التى جاءت على رأسها باكستان ومصر كأعلى دول تستهلك المواقع الإباحية وهو ما يشكل ردود أفعال على هيمنة النزعة المحافظة وأشكال التشدد الدينى على تعددها. الثورة الرقمية، تساهم فى تطور تقنيات الجريمة بمختلف أنماطها، بحيث نستطيع القول أن هناك سلوك إجرامى رقمى، فى الجرائم الاقتصادية والاجتماعية.. الخ. الجرائم الرقمية يتسع نطاقها من الجرائم المصرفية، إلى النصب، والجرائم الجنسية .. الخ، ومن ثم باتت تفرض على سلطات الدول الأمنية والاستخباراتية متابعة المجتمعات الافتراضية، لمواجهة هذه الأنماط المستجدة من الجرائم المختلفة. الأخطر أن الثورة الرقمية ساهمت فى تشكيل الخيال الإرهابى، وفى تطوير الجرائم الإرهابية، وفى بناء الشبكات الإرهابية، وفى التخطيطات للعمليات وتنفيذها. من هنا يثور السؤال ما هو رد فعل السلطة/ النظام على هذه التحولات والمطالب والضغوط؟ يمكن إيجاز بعض سياسة السلطة إزاء المجال العام الرقمى فيما يلى: أ- متابعة ورصد ما يحدث على الواقع الافتراضى، من خلال مواقع المحتملة للتخطيط وارتكاب الجرائم. ب- إنشاء فرق متخصصة للرد على خطاب التغريدات والفيس بوك.. الخ، أو التشهير بها، أو نفى ما جاءت به. ج- تغيير بعض المسئولين فى حالة التصريحات غير المسئولة، أو بعض الممارسات المنحرفة والمحمولة على الفساد.. الخ. د- جمع وتحليل المعلومات المطروحة على الواقع الافتراضى، وبحث طرق التعامل معها أمنياً وسياسيا واستخباراتياً. ه- قيام السياسيين فى غالب دول العالم لاسيما الأكثر تطوراً بإنشائهم صفحات ومواقع لهم على مواقع التفاعل الاجتماعى لإبداء آراءهم، وفى الرد على بعض الانتقادات لهم، وكذلك الوزارات والهيئات الحكومية المختلفة التى خصصت صفحات ومواقع باسمها على الشبكة العنكبوتية، لتوضيح وشرح سياساتها وقراراتها، والرد على أسئلة المواطنين، أو انتقاداتهم. يمكن القول أن تأثير المجال العام الافتراضى على الفعلى يتزايد نسبياً، إلا أن ردود أفعال النخبة الحاكمة وأجهزة الدولة لا يزال يدور فى أطر التفكير السلطوى المسيطرة على تفكير نخبة الحكم، من حيث المحافظة، وعدم استيعاب التطورات الرقمية المتسارعة، بل والتعامل معها فى حدود تفكيرها التسلطى المسيطر، ومن ثم عدم استيعاب منطق العقل الرقمى ولغته وتأثيراته، وهو ما ظهر فى أثناء انتفاضة 25 يناير 2011 وما بعدها، وإلى الآن، أنها فجوة إدراكية وفكرية وقيمية بين الأجيال الجديدة الشابة، وبين الأجيال الأكبر سنا فى نخبة الحكم وأجهزة الدولة، وهو ما يعنى سطوة الشيخوخة الجيلية على النخبة والنظام والدولة، وهو ما سوف يؤدى إلى تفاقم الفجوات الجيلية واحتقاناتها على نحو ما نرى!