تشير الدراسات التاريخية إلى أن إحدى بقاع المعمورة التى استطاع الإسلام أن يبث فيها تعاليمه الحضارية هى أرض إيران. وبنظرة خاطفة يمكننا القول: إن أفضل خدمة قدمتها إيران للإسلام هى إعداد الأرضية المناسبة لظهور الجانب الحضارى للإسلام، وأن ما قدمه الإسلام من خدمات لإيران هو توجيه قدراتها الحضارية وقابليتها إلى المشاركة فى بناء حضارة جديدة فاقت فى وقت مضى كل الحضارات. وهذا الموضوع هو محور كتاب «دور الإيرانيين فى تاريخ الحضارة العالمية لمحات ومقتطفات» للباحث الإيرانى عبد الفتاح حقيقت، وبترجمة رصينة للباحث المصرى علاء السباعى، الصادر عن المركز القومى للترجمة بالقاهرة. وفى رأيى أن مشروعية القراءة النقدية لهذه الدراسة تقوم على أساس محاولة إخماد نيران العداوة والكراهية التى يؤججها الآن فريق من الغلاة والمتطرفين على كلا الجانبين: العربى والإيرانى، وعلى الرغم من أن التاريخ المشترك بينهما امتد منذ ما قبل القرن الأول الهجرى / السابع الميلادى حتى الآن، فإن أولئك المتطرفين يتجاهلون الكثير من تفاصيل هذا التراث المشترك. ويستدعى البحث فى البعد التاريخى لهذه العلاقات أن نقرأ بمنظور نقدى سطور هذا الكتاب الذى يركز أكثر ما يركز على مكانة إيران العلمية، ودورها فى صرح الحضارة العالمية ليغلب على المؤلف نظرة شيفونية يكاد من خلالها يخلص إلى أن حضارة العالم قامت على أكتاف إيران دون غيرها! والواقع أن الأمر ليس على هذا النحو، خصوصًا أن ملوك إيران وأباطرتها القدامى قد استعانوا بمؤلفات من الهند والروم والصين وأرسلوا فى طلبها، حتى تزداد معرفتهم بعلوم غيرهم من الشعوب، وما توصلوا إليه فى مجالات المعرفة المختلفة، كما استعانوا بالأسرى الرومان، خصوصًا المتعلمين منهم وذوى الخبرة فى مجالات الهندسة والطب والجغرافيا للاستزادة من علمهم، وكانت الترجمة عن اليونانية والسنسكريتية وسيلة من الوسائل التى تمكنهم من معرفة ما عند غيرهم من الشعوب من العلوم المختلفة، بل إن ملوكهم كانوا يأخذون معهم بعض العلماء عندما يدخلون بلدا من البلدان ويعودون بهم إلى بلادهم فى محاولة للاستفادة منهم فى تخصصاتهم المختلفة، كما حدث بالنسبة إلى الأطباء المصريين والملك دارا. كل هذا إن دل إنما يدل على وجود تأثيرات هندية ويونانية ورومانية ومصرية فى الحضارة الإيرانية، ولا يمكن بأى حال من الأحوال إنكار فضل هذه الحضارات، وقصر الأمر على أن حضارة العالم قد قامت على عاتق حضارة واحدة! وربما أخفق المؤلف حين بالغ فى نسبة كل شىء إلى الإيرانيين، حتى اعتبر مجرد اشتمال كتاب زرادشت الدينى «الأڤستا» على أن المرض من صنع عنصر الشر، إنما يدل على أسبقية إيران فى مجال الطب، وهذه أحكام غير منطقية وبها مبالغة فى غير موضعها. والمنطقى أن الاهتمام بعلم الطب أمر تمليه الحياة ذاتها على أى مجتمع من المجتمعات، كما أن مدرسة «جنديشابور» الواقعة على مقربة من مدينة سوسة القديمة كانت تضم أكفأ مجموعة من المترجمين، وكانت تعد مركزًا للعلماء الذين غادروا الإمبراطورية البيزنطية عندما اتهمتهم الكنيسة الشرقية فى بيزنطة بالهرطقة، ونزل هؤلاء فى الرُها ونصيبين، ثم استقر المقام بهم فى «جنديشابور» وهناك اتصلوا بحرية كاملة بزملائهم الفرس والهنود ووضعوا الأسس العلمية والفكرية للعديد من ميادين المعرفة. كما أن استدلال المؤلف بأن زرادشت نبى الفرس القدماء، كان مشغولًا بعلم النجوم مما يدل على أسبقية الإيرانيين فى هذا العلم يعد أيضًا نوعًا من المبالغة فى الحكم على الأمور، والمعروف أن هذا العلم كان معروفًا عند الإيرانيين وعند غيرهم من الشعوب وليس ابتكار الإيرانيين ولا من ابتكار زرادشت نفسه. وكذلك الحال بالنسبة إلى الادعاء بأن الإيرانيين هم أول من أصدر بيانًا لحقوق الإنسان فى تاريخ العالم بعد فتح مدينة بابل عام 539 ق.م، وأن مجرد تحرير أسرى اليهود من قبل كوروش، والأمر الذى أصدره بهذا المعنى، يعنى صدور أول بيان خاص بحقوق الإنسان فى العالم. أما القول بأن الفكر الفلسفى عند الإيرانيين موجود منذ أقدم الأزمنة التاريخية فى إيران، ويعنى بذلك التأمل والتفكر بشأن الوجود والكائنات المختلفة، وأن هذا الفكر قاصر على الإيرانيين دون غيرهم، أمر يحتاج إلى مناقشة تصحح للمؤلف مفاهيمه حتى لا يخرج عن حيدة القراءة التاريخية. خصوصًا أن الشعوب فى أى مكان من هذا العالم الفسيح كانت تتأمل هذا الكون وما به من مخلوقات وتسعى إلى فهم حقيقته وكنهه، ولم يقتصر الأمر على شعب دون غيره. وإذا كانت المسيحية قد تشابهت عندها بعض الطقوس أو المصطلحات مع ما فى الديانة الميترائية أو الديانة الزرادشتية فإن هذا لا يعنى أن المسيحية قد قامت على أكتاف هذه الديانة، أو أنها تأثرت بها بشكل أو بآخر، والأمر يحتاج إلى إعادة قراءة من المؤلف حين يدعى أن المسيحية قد تأثرت بالديانة الزرادشتية فى مسألة الثواب والعقاب فى الآخرة، مع اختلاف شكل الجنة والنار فى الديانتين، فإن هذا مردود عليه بأن كل الأديان السماوية قد ذكرت الثواب والعقاب، وأنها لم تتأثر فى هذا بالديانة الزرادشتية، وهذا أمر لا يجب القطع برأى فيه بهذه البساطة التى اعتاد عليها المؤلف. ومن أمثلة ما ذكره المؤلف عن أوجه الشبه بين ديانة السيد المسيح وديانة مهر، أن أتباع ديانة مهر كانوا يضعون علامة الصليب كوشم يُدق على جباه الجنود، وأن هذه العلامة اتخذت فى الديانة المسيحية، والفرق كبير فى استخدام هذه العلامة كما يوضحها الدكتور محمد نور الدين عبد المنعم بقوله: «إن ديانة مهر هى مجرد وشم يميز به الجنود عن غيرهم، بينما الحال يختلف كثيرا بالنسبة لعلامة الصليب عند المسيحيين، لأنها ترمز إلى صلبى المسيح والفداء العظيم». ويستمر المؤلف فى مبالغاته التى جانبها الصواب بقوله: «بأن الإيرانيين هم أول من نادى بإنشاء حكمة ديمقراطية فى إيران القديمة»، مما يبعده عن الحقيقة، إذ إن الحادثة التى استشهد بها المؤلف حول الرغبة فى إقامة حكم ديمقراطى فى العصر الهخامنشى، لم تكن سوى مجرد اقتراح لقيام حكم جماعى بدلا من الحكم الفردى، وفى نهاية الأمر جلس داريوش على عرش البلاد، واستمر نظام الحكم الفردى، ولا يعنى هذا أن إيران ابتكرت حكمًا ديمقراطيا أو أنها حتى مارسته ولو فى الأمد القريب! وتشبه مبالغات المؤلف هنا ما ذكره ابن خلدون فى مقدمته أن حملة العلم من الملة الإسلامية أكثرهم من العجم، وإن كان منهم العربى فى نسبته فهو أعجمى فى لغته ومرباه ومشيخته، ورد عليه أحمد أمين فى «ضحى الإسلام»: «ونحن نعتقد أن ابن خلدون -مع دقة ملاحظته- قد غالى فيها غلوا كبيرا وبخس العرب نصيبهم فى المشاركة، فلئن كان أبو حنيفة النعمان فارسيًّا فمالك والشافعى وأحمد بن حنبل عرب، ولئن كان سيبويه فارسيًّا فشيخه الخليل بن أحمد عربى، وغلو أن يدعى أن هؤلاء العلماء العرب هم عجم بالمربى، فإن المربى كان مزيجًا من عرب وعجم». هذا كتاب يشى بأن مؤلفه قرأ الكثير فى موضوعه، لكن إغراء ما قرأه جعله يتوه عن هدفه الذى يفترض أن العنوان يجسده وبينما نجح الكثير من المؤلفين الإيرانيين وغيرهم من غير الإيرانيين فى عرض إسهامات إيران فى الحضارة العالمية بتوازن رصين فشل المؤلف فى تحقيق التوقعات التى وعد بها عنوانه، الكتاب حافل بمعلومات كثيرة ومهمة، لكنها خارج الإطار المنهجى والموضوعى، الذى يحقق الفائدة ويلبى ما يتطلبه العنوان.