نشأ الفكر الزرادشتي في (فارس) القديمة، وانتشر في إيران والمناطق المحيطة انتشاراً ضخماً.. وعلى الرغم من أن الفكر الزرادشتي ليس دينياً في حد ذاته مثل معظم المذاهب غير السماوية؛ لكنه تحوّل أيضاً مع الوقت إلى ديانة ضخمة لها مذاهب وطوائف عديدة.. دوّنت تعاليم "زرادشت" مؤسس المذهب في كتاب يعرف باسم (ألافيستا Avista).. وإن كان موضع شك حتى يومنا هذا بسبب تعرضه للعديد من عوامل التلف والتحريف.. وبالذات من أنصار تحويل الزرادشتية إلى ديانة.. تبدأ تعاليم "زرادشت" بالنظرة التحليلية للعالم، والتأمل المدقق لأحداث الحياة التي تقع فيه (مثل المرض – الميلاد – الموت – الحروب – الجنس والزواج).. وبشكل خاص اهتم "زرادشت" في تأملاته بتأثير هذه الأحداث على المخلوقات الحية.. كالإنسان والحيوان.. وهكذا وجد أن العالم ينقسم -وفقاً للفكر الزرادشتي- إلى قسمين متناقضين دائماً: خير وشر، نور وظلام، سعادة وتعاسة... وهكذا دواليك.. وبذلك نجد أن الفلسفة الزرادشتية تنصّ على أن العالم حولنا غير متكامل؛ إنما يتأرجح دائماً بين قيمتين عظيمتين، أشار إليهما (زرادشت) في كتابه بلفظة "القوى العليا".. وهما: (سيتامينو) Sytaminu: وهي الخير والنور والإيجابية.. السعادة والثروة والرضا.. الجمال والصحة والقدرة الجنسية... القوة والعلم... إلخ. فيما بعد تحدث المتدينون عن هذه القوة باعتبارها إلهاً تتوجب عبادته واسترضاؤه.. وأطلقوا عليه اسم (أهورا مازدا Ahura – Mazda).. (أنجرا مانيو) Angra – Manyou: وهي عكس ما سبق: الموت.. المرض... الجهل... القبح.. الشر.. البخل ومختلف الآثام.. إلخ. ببساطة شديدة يرى الفكر الزرادشتي أن العالم يسير ويتحرك إلى الأمام تحت تأثير الصراع بين هاتين القوتين المتساويتين.. إن كتاب (ألافيستا) يكتظ بالكثير من التراتيل التي تصف كلا القوتين؛ فتمجد (القوة العليا) وتشيد بها، وتندد ب (القوة الخبيثة) وتصورها دائماً بالروح التي تفسد كل شيء... يبدأ الجزء التالي من الفكر الزرادشتي بالتساؤل: كيف يمكن أن يكون الإنسان سعيداً.. بعيداً عن المعاناة؟! إن الإنسان مهما كان غنياً جميلاً وثرياً.. فمصيره المرض والموت في النهاية.. وينطبق هذا أيضا حتى على من يتحلى بالأخلاق الكريمة؛ فالصادق والكريم أيضا يموت ويتألم... ولذلك فإن العالم دائما غير كامل، وبالتالي فإن الإنسان أيضا غير كامل.. إنما هو فقط يقع بين هاتين القوتين، ويحركه القدر بينهما، وفقاً لسلوكه في الحياة.. وبذلك يجب أن تكون رحلة الإنسان في حياته عبارة عن السعي الدائم نحو الخير؛ لأن أعماله الخيّرة تضمن حصوله على السعادة والهبات والثراء.. والجنة بعد الموت.. لذلك تحث تعاليم "زرادشت" على العطاء باعتباره أكبر الفضائل، ثم على الصدق والتهذيب واللطف مع الآخرين، ونظافة البدن بعد الروح.. ولأن العالم يقع دائماً بين هذين المؤثرين، ولأن الإنسان ليس كاملاً ومن المحتم أن يتأثر بهما معاً؛ يؤمن الفكر الزرادشتي أن العمل سيلازم الإنسان دائماً حتى بعد الموت.. ولذلك تفردت الديانة الزرادشتية فيما بعد بفكرة أن الجنة والنار ما هما إلا مجرد مرحلة، يبعث الإنسان بعدهما مرة أخرى.. وأن الموت ليس سوى فناء للجسد فقط؛ إنما تبقى الروح متأثرة بالعمل، الذي يوجه الروح إلى الجزاء، ثم تبعث الروح بعد ذلك مرة أخرى في جسد جديد، وهكذا.. لذلك يؤمن الزرادشتيون بتناسخ الأرواح.. بعيداً عن الديانة، نجد أن الفلسفة الزرادشتية في ذاتها تعتبر أن القوة، الجاه والجمال، دليلاً على صلاح الإنسان، وقربه من الاكتمال.. من العجيب جدا أن خاتمة القسم الأخير من الفلسفة تدعو للتعصب والعنف..!! يتحدث "زرادشت" في نهاية تعاليمه عن أحقية الأقوى في سيادة الأضعف؛ بل والتحكم في مصيره، لأن الأقوى أكثر اكتمالاً وقرباً من النور وفهماً للحياة.. بل ويصف الضعفاء والمرضى باعتبارهم خطاة يستحقون الإبادة، وما المرض والضعف إلا علامة على خطاياهم..!!! وتحدث "زرادشت" بشكل مفصّل عن هؤلاء الأقوياء الحكماء واصفاً إياهم بلفظة تترجم عادة إلى كلمة "النورانيين" أو أصحاب النور.. إن هذا التناقض الغريب أثار دهشة الفلاسفة عبر العصور؛ بل ولا يزال حتى يومنا هذا مثار الفكر والاستغراب، وسبباً في التشكك في الهدف الحقيقي للفلسفة.. لقد درس الفيلسوف الألماني الشهير "فريدريك نيتشه" أفكار "زرادشت"، وصاغها بشكل تسبب فيما بعد في ظهور العديد من النظريات الفكرية والعلمية؛ لعل أشهرها هي فكرة (الإنسان السوبرمان) والتي تقضي بارتقاء الإنسان بشكل علمي وروحي وجسدي، كما أشار "زرادشت" في كتاباته.. بل كانت أفكار "زرادشت" عن تميز البشر واختلافهم عن بعضهم البعض سبباً في ظهور أكثر الحركات السياسية شهرة وتأثراً في التاريخ: النازية.. فيما بعد طالب الزرادشتيون بتأليه القوى العليا، وتحويل "زرادشت" إلى نبي مرسل.. إن كثيراً من الكتابات تشير إليه باعتباره النبي "زرادشت" وتعقب اسمه بلفظة "المخلّص" لأنه جاء بالخلاص للعالم من المعاناة.. وتحولت إلى ديانة وثنية مع الوقت، أشهر طوائفها على الإطلاق من أسماهم العرب فيما بعد ب"المجوس".. أو "عبدة النار".. كان "زرادشت" يرمز للقوة الإيجابية بالنار؛ لذلك كان يحب وجودها باعتبارها النور والدفء، ولم يطالب أبداً بعبادتها أو تأليهها على الإطلاق؛ خلافاً عما هو شائع.. من الطريف أيضاً أن "الجحيم" الذي يذهب إليه الخطاة بعد الموت كما وصف في (ألافيستا) عبارة عن مكان جليدي ممتلئ بالصخور، ويسعى فيه مجموعة من الكائنات المخيفة التي تعذب الخطاة، وهي بالطبع صورة مناقضة لفكرة الارتباط بين "الجحيم" والنار في معظم الديانات السماوية وغير السماوية..!! وتحول "العطاء" إلى تقديم القرابين.. ومن الجدير بالذكر أن نشأة الفلسفة الزرادشتية تقدّر بين القرن الرابع عشر والخامس عشر قبل الميلاد؛ بينما توفي "نيتشه" في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي.. وهذا يعني أن الفلسفة الزرادشتية أثرت -رغم غرابتها- في الفكر الإنساني بعد أكثر من 22 قرناً من الزمان..!!