وزير الأوقاف من مسجد السيدة زينب: أئمتنا على قدر المسئولية في بناء خطاب ديني رشيد    مساندة الخطيب تمنح الثقة    الإنتهاء من المستوى الأول من وعاء الاحتواء الداخلى لمبنى المفاعل بمحطة الضبعة النووية    وزارة العمل تعلن عن 2772 فُرصة عمل جديدة فى 45 شركة خاصة فى 9 مُحافظات    شراكة جديدة بين وزارة التضامن وأحد المستثمرين بجنوب سيناء    5723 طلبًا للتصالح في مخالفات البناء بالشرقية    سعر الذهب اليوم الجمعة في مصر يرتفع بحلول تعاملات المساء    أوقاف البحيرة تفتتح 3 مساجد جديدة    دول مجلس أوروبا تعتمد اتفاقية بشأن الذكاء الاصطناعي    رئيس جهاز دمياط الجديدة يستقبل لجنة تقييم مسابقة أفضل مدينة بالهيئة للعام الحالي    «تقدر في 10 أيام».. موعد مراجعات الثانوية العامة في مطروح    عضو «حقوق الإنسان»: دعم مصر لجنوب إفريقيا أمام «العدل الدولية» جاء في توقيت مهم    القسام: قنصنا جنديًا إسرائيليًا شرق جباليا    وزير الأوقاف: كلمة الرئيس بالقمة العربية تأكيد بأن مصر لن تفرط في ذرة من ترابها    إعلام فلسطيني: شهيدان ومصاب في قصف إسرائيلي استهدف مواطنين بحي الزهور    "7 لاعبين و3 ألقاب".. ماذا تغير في النادي الأهلي منذ نهائي دوري الأبطال 2018؟    مؤتمر أرتيتا عن – حقيقة رسالته إلى مويس لإيقاف سيتي.. وهل يؤمن بفرصة الفوز بالدوري؟    رئيس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم : نطالب بتطبيق قوانين الفيفا على الاحتلال الإسرائيلي بشأن المباريات الدولية    "يمنح الطلاب شهادات مزورة".. ضبط سيدة تُدير كيان تعليمي وهمي في الغربية    موعد عيد الأضحى المبارك 2024.. بدأ العد التنازلي ل وقفة عرفات    «جمارك القاهرة» تحبط محاولة تهريب 4 آلاف قرص مخدر    جوري بكر تعلن انفصالها بعد عام من الزواج: استحملت اللي مفيش جبل يستحمله    الهرم الرابع وطاغية وبطل جماهيري.. ماذا قال النجوم عن عادل إمام؟    ليلي علوي: عادل إمام قيمة فنية كبيرة يعكس ثقافة مصر    أحمد السقا: يوم ما أموت هموت قدام الكاميرا    هشام ماجد ينشر فيديو من كواليس "فاصل من اللحظات اللذيذة".. والجمهور: انت بتتحول؟    الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم: قد نتوجه لكونجرس الكاف بشأن مشاركة إسرائيل في المباريات الدولية    بعد إعادة افتتاحه.. تاريخ متحف «كفافيس» بالإسكندرية ومواعيد دخوله «صور»    دعاء يوم الجمعة وساعة الاستجابة.. اغتنم تلك الفترة    فريق قسطرة القلب ب«الإسماعيلية الطبي» يحصد المركز الأول في مؤتمر بألمانيا    تناولها أثناء الامتحانات.. 4 مشروبات تساعدك على الحفظ والتركيز    كيف ينظر المسئولون الأمريكيون إلى موقف إسرائيل من رفح الفلسطينية؟    اندلاع حريق هائل داخل مخزن مراتب بالبدرشين    توخيل يعلن نهاية مشواره مع بايرن ميونخ    كولر: الترجي فريق كبير.. وهذا ردي على أن الأهلي المرشح الأكبر    بالصور- التحفظ على 337 أسطوانة بوتاجاز لاستخدامها في غير أغراضها    ضبط سائق بالدقهلية استولى على 3 ملايين جنيه من مواطنين بدعوى توظيفها    ما هو الدين الذي تعهد طارق الشناوي بسداده عندما شعر بقرب نهايته؟    «المرض» يكتب النهاية في حياة المراسل أحمد نوير.. حزن رياضي وإعلامي    المفتي: "حياة كريمة" من خصوصيات مصر.. ويجوز التبرع لكل مؤسسة معتمدة من الدولة    المقاومة الإسلامية في العراق تقصف هدفا إسرائيليا في إيلات بالطيران المسيّر    آخر موعد لتلقي طلبات المنح دراسية لطلاب الثانوية العامة    قافلة دعوية مشتركة بين الأوقاف والإفتاء والأزهر الشريف بمساجد شمال سيناء    كوريا الشمالية ترد على تدريبات جارتها الجنوبية بصاروخ بالستي.. تجاه البحر الشرقي    كيف يمكنك حفظ اللحوم بشكل صحي مع اقتراب عيد الأضحى 2024؟    أوقاف دمياط تنظم 41 ندوة علمية فقهية لشرح مناسك الحج    حركة فتح: نخشى أن يكون الميناء الأمريكي العائم منفذ لتهجير الفلسطينيين قسريا    تفاصيل حادث الفنان جلال الزكي وسبب انقلاب سيارته    الاتحاد العالمي للمواطن المصري: نحن على مسافة واحدة من الكيانات المصرية بالخارج    سعر جرام الذهب في مصر صباح الجمعة 17 مايو 2024    بعد حادثة سيدة "التجمع".. تعرف على عقوبات محاولة الخطف والاغتصاب والتهديد بالقتل    أحمد سليمان: "أشعر أن مصر كلها زملكاوية.. وهذا موقف التذاكر"    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    محمد عبد الجليل: مباراة الأهلي والترجي ستكون مثل لعبة الشطرنج    «الأرصاد»: ارتفاع درجات الحرارة اليوم.. والعظمى في القاهرة 35 مئوية    طبق الأسبوع| من مطبخ الشيف بسمة الفيومي.. طريقة عمل الكرواسون المقلي    لا داع للقلق.. "المصل واللقاح" توجه رسالة عاجلة للمواطنين بشأن متحور FLiRT    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكاية المطبعة القديمة محمد المنسي قنديل
نشر في التحرير يوم 17 - 05 - 2013

هذه واحدة من حكايات ثلاث ستصدر فى كتاب بعنوان «3 لحظات من الغضب» تستعد دار «الشروق» لنشرها قريبًا.. وتهدف إلى رواية تاريخ الثورة للفتيان قبل أن يطول وقائعها التحريف
المظاهرات لا تهدأ هذه الأيام.. كنا نطالب بالحرية والعدالة والخبز لكل الفقراء.. وكما يحدث دائما هجم علينا رجال الشرطة بالعصى والقنابل المسيلة للدموع.. وأخذ رجال أمن الدولة يطاردوننا محاولين القبض علينا
«شاى يا (فلفل).. قهوة يا (فلفل).. حاجة ساقعة يا….».
الجميع ينادونه باسمه، لكن لا أحد يراه، كأن من يقوم بخدمتهم هو مجرد شبح، لكنه يراهم جميعًا، ويحفظ ملامح وجوههم، يقف فى ركن المقهى، يراقب الأستاذ نجيب محفوظ، وهو يجلس فى مكانه المعتاد، مثل يوم جمعة، يلتف حوله مجموعة أصغر سنًا، كتّاب قصة وشعراء ورسامون ومخرجو سينما، بعض الوجوه ثابتة، تأتى فى نفس الموعد كل أسبوع، لذلك فهى مضمونة عند دفع الحساب، ووجوه أخرى تتغير، عليه أن يأخذ باله منها، لأنها يمكن أن تنصرف دون أن تدفع شيئًا، والأستاذ ينظر إلى الجميع وعلى وجهه ابتسامة لا تغيب، وأحيانا يضع يده على إحدى أذنيه ليستمع إليهم باهتمام.
يسمع «فلفل» بعضًا من الأحاديث التى يتبادلونها، لكنه لا يستطيع التوقف، فهو يروح ويغدو حاملًا الطلبات، قصص وقصائد ومشاريع أفلام، المهم أنه يعرف الموعد المحدد الذى يشرب فيه «الأستاذ» فنجان القهوة الأول، وبعدها بساعة بالضبط يشرب الفنجان الثانى، وفى الساعة الثامنة بالضبط أيضا ينهض منصرفًا، فى تلك اللحظة ينقض «فلفل» على الزبائن ليطالبهم بدفع الحساب، لكن.. بعد أن يخلو المقهى وتبدد الكلام ويسود الصمت، يستند «فلفل» إلى الحائط ويفكر فى أمنيته الوحيدة، هى أن يكون واحدًا من الذين يجلسون حول الأستاذ، يتكلم ويستمع ويناقش، فى لحظة سحرية يمد يده فى جيبه ويخرج ورقة ويقرأ ما فيها فينصت له الجميع بانتباه، ويهز «الأستاذ» رأسه فى إعجاب.. هل يمكن أن يحدث هذا؟!
وبعد أن يغلق المقهى أبوابه فى منتصف الليل، يسير «فلفل» فى شوارع شبه خالية، يرى المصابيح بلون البرتقال، تحيط بها دوائر من نقاط مضيئة، والناس يتحدثون فى خفوت، ويفكر.. ماذا يمكن أن يكتب؟ كيف يلفت نظر الأستاذ والذين يحيطون، كيف يقنعهم أنه ليس مجرد جرسون؟
يصل المنزل والجميع نائمين، الوحيد المستيقظ ابنه سعد، يحب «فلفل» منظره وهو يذاكر، سيجعله هذا شابًا متعلمًا معه شهادة، على الأقل لن يعمل جرسونا مثله، تلك المهنة المتعبة التى لا يحترمها أحد، جلس أمامه وهو يقول له:
- هل لديك كراسة خالية وقلم؟
نظر إليه «سعد» مندهشًا، وهو يقول له: لماذا.. هل تنوى المذاكرة؟
قال «فلفل»: أريد أن أكتب.. لكنى لا أعرف حقًا ماذا يمكن أن أكتب؟
قال «سعد»: أنت تقول إن المقهى ملىء بالكتّاب، لماذا لا تسأل واحدا منهم، لماذا لا تسأل الأستاذ «نجيب محفوظ» نفسه..
أخذ «فلفل» الكراسة الخالية والقلم ونهض منصرفًا وهو يقول:
- الأمر ليس بهذه السهولة يا بنى..
قضى الليل كله دون نوم، يحاول أن يقنع نفسه أنه مجرد «جرسون»، وسوف يظل كذلك، فى الصباح وصل إلى المقهى متعبًا، ارتدى عباءة العمل، كانت زرقاء اللون مطرزة بخطوط ذهبية عليها اسم مقهى «ريش»، تجول بين الموائد الخالية ليتأكد من نظافتها، قليل من الزبائن يأتون فى الصباح، فى ركن المقهى يجلس «ماسح الأحذية» فى انتظار الزبائن، كان رجلًا عجوزًا غريبًا، لكن هذه هى المرة الأولى التى يراه فيها «فلفل»، كان «ماسح الأحذية» القديم قد مات، لا بد أن هذا الرجل أحد أقاربه، يجلس صامتا كشيخ حكيم، لا يدق حتى على الصندوق لينبه الزبائن لوجوده كما كان يفعل الذى سبقه.. هذا أفضل وأكثر هدوءًا.
ثم حدثت بعض الأشياء الغريبة، بدأت عندما شاهد «فلفل» الأستاذ «نجيب محفوظ» وهو يدخل إلى المقهى بخطوات هادئة، كان كعادته يتسرب بخفة، لا يريد أن يلفت الأنظار إليه، رفع يده محييا ل«فلفل» وهو يخفض رأسه، ويربت بيده على صدره، كم كان يحب هذه الحرمات المتواضعة، جلس على منضدته المعتادة، وعلى وجهه الابتسامة الواسعة التى نادرا ما تفارقه، ابتسامة ودودة، لا تقيم حاجزا بينه وبين الآخرين، لا بد أنه ينتظر أحدا، أسرع «فلفل» وأمر بإعداد القهوة الخاصة به، على «الريحة» لا توجد فيها ذرة من السكر، ثم حملها إليه، وجد «ماسح الأحذية» قد سبقه وجلس أمامه بالفعل، كان منهمكًا فى تلميع حذائه، كم هو بارع، الحذاء لامع مثل مرآة مصقولة، لم يملك «فلفل» نفسه وهو يضع القهوة أمام الأستاذ، قال هامسًا:
- اعذرنى يا أستاذ.. عندى سؤال.. مجرد سؤال..
رفع الأستاذ رأسه دون تغادره الابتسامة، واصل «فلفل» وهو يبلع ريقه:
- أريد أن أعرف كيف أكتب؟
ضحك «نجيب محفوظ» قائلا:
- يا له من سؤال صعب يا «فلفل»، هل تعتقد أننى أعرف إجابته..؟
بالطبع يا أستاذ.. أنت أكبر كاتب فى مصر، لا بد أنك تعرف الإجابة..
رشف «محفوظ» قليلا من فنجان القهوة، فكر قليلا ثم قال فى جدية:
- ربما لأننى لم أسأل نفسى هذا السؤال، فأنا أكتب كما آكل وكما أشرب أو أنام أو أصحو، الكتابة هى أحد أفعال الحياة بالنسبة لى..
كان يتكلم برقة ولطف، وماسح الأحذية يواصل التلميع، لكن الإجابة لم تكن مرضيّة، عاد «فلفل» يقول فى إلحاح:
- على الأقل لى قل عن أى شىء أكتب؟
ضحك الأستاذ وهو يقول:
- هذا السؤال أسهل قليلا.. اكتب عن كل الأشياء التى تراها عينيك، أما التى لا تراها فاكتب عما تحسه نحوها، لكى تكتب يا «فلفل» يجب أن ترى بعمق وتسمع برهافة وتحس بصدق، هل كلماتى مفهومة؟
تمتم «فلفل» بكلمات الشكر وهو يتراجع، ظل واقفًا بالقرب منه، كانت هذه فرصة نادرة لتأمله فى هدوء، لا يوجد زحام، ولا يوجد من يحيط به، أصبح الحذاء لامعًا بدرجة لم يرَ «فلفل» من قبل، لكن ماسح الأحذية ظل جالسًا فى مكانه، يطيل النظر فى حذاء الأستاذ كأنه يبحث عن شىء ما، نظر إليه «نجيب محفوظ» مازحًا وهو يقول: ماذا.. هل ترى شيئًا فى الحذاء؟
ولدهشة «فلفل» سمع «ماسح الأحذية» وهو يرد:
أجل يا أستاذ.. أشياء كثيرة وخطيرة..
ضحك «نجيب محفوظ»:
لقد سمعت عن الذين يقرؤون الكف، أو الفنجان، لكن هذه أول مرة أرى من يقرأ الحذاء.. ماذا ترى؟
قال «ماسح الأحذية»: أشياء كثيرة كنت تحلم بها سوف تتحقق..
عاد الأستاذ يضحك: قديمة.. كنت أحلم بجائزة نوبل وحصلت عليها بالفعل..
قال الرجل: هناك ما هو أخطر.. البلد كلها ستنقلب.. ستتغير.. الفتوات الأقوياء سيهزمون.. والحرافيش الضعفاء سينتصرون.. النائمون يستيقظون والمظلومون يصرخون والجلادون يهربون..
كان الرجل يتحدث كالمنوم، كأن الكلمات تأتيه من عالم آخر، وشعر «فلفل» بالرهبة من نبرات صوته وطريقته فى الكلام، ظل الأستاذ جامدا وقد اختفت ابتسامته، ثم قال بجدية:
- متى سيأتى هذا اليوم؟
قال الرجل: ليس ببعيد يا أستاذ.. ليس ببعيد..
بدأ يجمع علب الورنيش وزجاجات الصبغة، أنزل الأستاذ قدمه من فوق الصندوق، وأخرج من جيبه ورقة مالية قدمها له، لكن «ماسح الأحذية» هز رأسه رافضًا، حمل صندوقه، وجلس فى الركن، وظل «فلفل» مذهولا، ونهض الأستاذ واقفًا، قدم الورقة المالية لفلفل قائلا:
- أقنعه بقبول النقود..
وأومأ «فلفل» برأسه، وسار الأستاذ مبتعدا، تأمل الرجل وقد عاد إلى جلسته الصامتة، قال لنفسه، سأكتب عن «ماسح الأحذية» هذا، رجل غريب، سأرى ما يفعل، وأسمع ما يقول، وسأحاول أن أشعر بما يحس، لا شك فى غرابة الرجل، فهو يبقى هادئًا طوال الوقت، لا يبدو متلهفا على العمل، يبدو كأنه هو الذى يختار زبائنه، وهذا ما فعله مع هذا الزبون التالى..
كان رجلا ضخم الحجم، وجده «فلفل» عند قدميه، يصبغ حذاءه فى استغراق، يمر عليه بالممسحة أكثر من مرة حتى يتألق ويصبح لامعًا كالمرآة، يتوقف وينظر إلى الزبون فجأة قائلا:
يجب أن تغير عملك.. تنتظر أمورا سيئة.. بعض رؤسائك غير راضين عن عملك.. الأفضل أن تبادرهم أنت بالتغيير قبل أن يقوموا هم بتغييرك..
وقبل أن ينطق الرجل بكلمة، نهض «ماسح الأحذية» وانصرف عائدا إلى مكانه، ظل الزبون البدين جالسًا، عاجزا عن تناول مشروبه، لا بد أنه كان يقلب تفاصيل حياته فى ذهنه، يحاول أن يعرف ما الأخطاء التى وقع فيها، يفكر أيضا فى هذا الرجل الغريب.. هل هو مجرد ماسح للأحذية، أم قارئ للمستقبل؟
كان الزبون الثالث.. سيدة، لم يبد عليها أنها تريد أن تمسح حذاءها، لكن «ماسح الأحذية» ظل جالسًا أمامها فى صمت، نظرت إليه لفترة ثم مدت ساقها نحوه فى تردد، خلع الحذاء من قدميها ببساطة وأخذ فى تنظيفه، لم يكن السطح اللامع إلا قطعة صغيرة من الجلد على شكل مثلث، رفع وجهه نحوها وقال فى تأكيد:
- الولد الذى تتمنين ولادته سوف يجىء..
شهقت المرأة نظرت إليه وهى تهتف: كيف عرفت؟
قال: سيكون ولدا جميلا.. سيقف فى ميدان التحرير قريبًا من هنا وسيصيح بأعلى صوته..
امتلأت عينا المرأة فجأة بالدموع:
- إن كان سيجىء حقا.. لماذا سيقف ولماذا سيصيح؟
قال: لأنه سيكون ولدًا محبًا للحرية..
جمع أدواته، وعاد للركن الذى تعود على الجلوس فيه، وانصرفت المرأة وهى لا تستطيع أن تغالب دموعها، لكنها كانت سعيدة، وراقب «فلفل» كل ما حدث، أخذ يعيد التفاصيل فى ذهنه ويكررها حتى يحين وقت الكتابة.
لم تتوقف الحوادث الغريبة..
بدأت الطيور تظهر حول المقهى، جاءت فى منتصف النهار، ومعظم مناضد المقهى خالية، لا يوجد فوقها إلا بقع مستديرة من ضوء الشمس، مثل قطع نقود براقة، وكان صاحب المقهى نائمًا على مقعده، ساعة القيلولة اليومية التى تعود عليها، هبطت عصافير صغيرة ملونة على المناضد، تلفتت حولها بعيون صغيرة براقة، كأنها تنتظر شيئا، فكر «فلفل» أن يطردها بعيدا، لكنه دهش بأحجامها الصغير وألوان ريشها، كان باهت الزرقة كموج النهر وأحمر مثل ضوء الشفق ورمادى مثل بزوغ الفجر، تساءل «فلفل»: ما الذى جاء بها هنا.. لماذا اختارت هذا المقهى؟ لم تترك أى أثر للفضلات على المناضد التى تقف عليها، أين تعلمت النظافة وهذا السلوك الحسن؟
وفجأة أدرك «فلفل» لماذا حضرت إليه، أسرع لداخل المقهى، أحضر وعاء ملأه بالماء، وفتت رغيفًا من الخبز إلى قطع صغيرة، وعندما اقترب من العصافير ابتعدت هى قليلا، امتلأ المكان بحفيف أجنحتها، لكنها عادت عندما شاهدت فتات الخبز والماء، وعلى الفور بدأت تلتقط الفتات بمناقيرها، ثم تغمسها فى بالماء، تنفض جسمها كله كأنها تدخل فيه الطعام، وبعد قليل بدأت تزقزق فجأة، أصبحت أصواتها فرحة وجذلة، ملأت صمت المقهى بنوع من البهجة، استيقظ صاحب المقهى مذعورا، انتفض كرشه الضخم وهو ينهض مذعورا:
- ما هذه العصافير.. اطردها من هنا فورا..
قال «فلفل»: لماذا.. إنها لا تحدث ضررا؟
قال صاحب المقهى: هذا المقهى للزبائن وليس للطيور، يجب أن تطردها حالًا..
تقدم «فلفل» حزينا، لا بد من طردها، فسيأتى الزبائن بعد قليل، ولا بد أن يجدوا المكان خاليا ونظيفا، صفق بيده، أطاعته الطيور على الفور، حركت أجنحتها وارتفعت إلى أعلى، كونت سربا على شكل رأس سهم، ودارت نصف دورة أمام المقهى ثم غادرت المكان، تنهد صاحب المقهى فى ارتياح وحاول أن يعاود النوم من جديد..
فى اليوم التالى عادت الطيور فى نفس الميعاد، لكن أكثر عددا وألوانها أكثر تنوعًا، وكان «فلفل» قد جمع كل بقايا الخبز التى تركها الزبائن فى كيس من «البلاستيك» وأخفاها عن الجميع، وكان ينتهز أى فرصة يخلو فيها من العمل ليقطعها إلى فتافيت صغيرة، وعندما جاءت الطيور كان مستعدا، على الفور وضع أمامها الطعام والماء، وأشار لها بطرف أصابعه أن تظل صامتة، لكن هيهات، ما أن فرغت من الطعام حتى بدأت فى الزقزقة من جديد، بصوت أجمل وأقوى، وعندما استيقظ صاحب المقهى مذعورا، صفق «فلفل» بيده فهزت أجنحتها وطارت جميعا، أصبحت أكثر من سرب، ظلت تدور أمام المقهى وفوق رؤوس المارة الذين توقفوا وهم يتأملونها فى دهشة، لم ينطق صاحب المقهى بكلمة واحدة، لكنه ظل يفرك عينيه كأنه يحاول التأكد من أنه لا يحلم، ظلت تدور لفترة من الوقت، ثم بدأت تهبط وتحط على المبانى المحيطة بالمقهى، تنام على حواف النوافذ وعلى حافة الأسطح وعلى أفاريز المبانى، أخذت أعدادها فى التزايد، وفى اليوم الثالث لم يستطع صاحب المقهى النوم، ظل يراقب العصافير وهى تأتى وتحتل كل المناضد، ولم يعترض حين رأى «فلفل» وهو يقدم لها فتات الخبز والماء، ظل يتابعها وهى ترفرف بأجنحتها الصغيرة الدقيقة، وتحتل واجهات كل المبانى، بل إنها ذهبت ونامت على تمثال طلعت حرب الموجود فى الميدان الصغير الملاصق للمقهى، وقفت فوق طربوشه الصغير وعلى كتفيه، وحول قدميه، كان المارة يتأملون هذه الهجرة الجماعية مندهشين، تساءل صاحب المقهى فى حيرة:
- ماذا يحدث يا «فلفل»؟ من أين جاءت ولماذا ترفض الرحيل؟
نهض «ماسح الأحذية» من مكانه، أشار إليها وهو يقول:
- إنها «عصافير النيل»، لقد هجرت النهر ولا تريد العودة إليه، إنها جائعة وعطشى..
قال صاحب المقهى: كيف تصل إلى هذه الحالة وهى تحلق على النهر طوال اليوم؟
لم يكن هناك جواب، كانت هناك آلاف من العيون البراقة الصغيرة تحيط بالميدان،، ولا تقدم جوابًا لأحد..
ثم جاء الشاب..
فى البداية لم يرَ «فلفل» ملامحه بوضوح، كان يعدو قادمًا من صوب ميدان التحرير، يحاول أن يخترق طريقه الرصيف المزدحم، يصطدم بالمارة، ولا وقت عنده للتوقف والاعتذار، والطيور تراقبه بعيونها المستديرة دون أن تتحرك من مكانها، كان يلهث، وسمع «فلفل» صوت لهاثه وهو واقف عند الباب، لم يكن صاحب المقهى موجودا، وهذه من المرات النادرة، توقف الشاب أمامه وهو يقول:
- أرجوك خبئنى.. رجال «أمن الدولة» يطاردوننى..
نظر إليه «فلفل» وهو فاغر الفم، لا وقت للدهشة، دخل الشاب إلى المقهى بسرعة، أخذ يبحث عن ركن ينزوى فيه، أو مائدة يهبط تحتها، وحاول فلفل أن يتخلص من إحساس الفزع الذى غمر جسده، كان اسم هذا الجهاز الأمنى فقط مثيرا للرعب، وكان رجاله معروفين بالشراسة والقسوة، وهذا الشاب النحيل يبدو واحدًا من الطلبة، لو امسكوا به فسوف يطحنون جسده، دخل خلفه مسرعًا، أشار إلى الشاب الذى كان يحاول الاختباء خلف حاجز إعداد المشروبات:
- هذا لا يصلح.. تعال معى...
جذب الشاب من يده وأسرعا معا إلى مؤخرة المقهى، كان هناك مدخل صغير مخفى خلف ستارة ثقيلة يؤدى إلى المخزن، هبطا الدرج بسرعة، وأغلق «فلفل» الباب خلفه، ربضا معا فى العتمة، كانت رائحة المخزن عطنة بعض الشىء، لكنهما كتما أنفاسهما، سمعا صوت أقدام غليظة تدب فى الأعلى، أصوات تسأل فى خشونة، وصوت واحد من العاملين يرد عليها، هل لمحهما أحد؟ ارتفع الصوت الخشن يصيح مهددا، وهذه المرة لم يرد أحد عليه، بدأت الأقدام الغليظة تبتعد، عاد السكون إلى المقهى، وتحرك «فلفل» ليستطلع الأمر، لكن الشاب أمسكه من ذراعه قائلا:
يجب أن نبقى هنا بعض الوقت.. لن ينصرفوا بسرعة..
كانت الوقفة غير مريحة، هبط الشاب بضع درجات أخرى، أصبح فى وسط المخزن، بين أجولة السكر وعلب الشاى والبن وصناديق المشروبات، تلفت حوله مندهشا، لكن دهشة «فلفل» كانت أقوى، هل يريد الشاب أن يواصل الاختباء فى هذا المكان، بالطبع كان هذا مستحيلًا، يكفى أنه أنقذه من أيديهم هذه المرة، وعليه أن يبحث عن مخبأ آخر، سأله «فلفل»:
- أنت طالب فى الجامعة، أليس كذلك؟
قال الشاب: أجل.. فى كلية الطب.
قال «فلفل»: هؤلاء الناس.. أعنى أمن الدولة لماذا كانوا يطاردونك؟
قال الشاب: كنا فى مظاهرة فى ميدان التحرير، أنت تعرف.. المظاهرات لا تهدأ هذه الأيام، كنا نطالب بالحرية والعدالة والخبز لكل الفقراء، وكما يحدث دائما هجم علينا رجال الشرطة بالعصى والقنابل المسيلة للدموع، وأخذ رجال أمن الدولة يطاردوننا محاولين القبض علينا..
كان يتحدث بطريقة عادية كأن المطاردة تحدث له كل يوم، لكن عينيه كانتا تبرقان وهو يدور برأسه، يتفحص تفاصيل المكان، أصدر صوتا مندهشا، التفت إلى «فلفل» وهو يتساءل:
- ما يقولونه عن هذا المكان صحيح إذن؟
قال «فلفل» مندهشا: ماذا تعنى.. أى مكان؟
أشار الشاب إلى مكان غائر فى نهاية المخزن:
- هذا هو المكان المؤدى إلى القبو؟
نظر «فلفل» إلى حيث يشير، كان يعمل فى المقهى منذ سنوات طويلة، ولأول مرة يلاحظ هذا الباب الصغير المنخفض بعض الشىء، ربما لأن له نفس لون الجدار، وربما لأنه حين يهبط المخزن يكون منشغلا بأخذ ما يحتاج إليه فقط، لا ينظر إلى بقية التفاصيل، قال «فلفل» مندهشًا:
- لا أفهم شيئا..
لكن الشاب أسرع نحو الباب، أمسك بالمقبض الصغير الذى لا يكاد يرى، أخذ يديره يسرة ويمنة، ثم أخذ يدفعه بكتفيه، أمسكه «فلفل» وهو يقول مندهشا:
- ماذا تفعل؟ ليس لنا الحق فى ذلك، سيأتى صاحب القهوة بسبب هذه الضجة، إنه باب قديم، لا يؤدى إلى مكان..
لم يأبه الشاب باعتراضه، ظل يواصل دفع الباب وهو يقول:
- هناك قبو خلف هذا الباب، قبو آخر كان يستخدمه الثوار فى أثناء ثورة 1919، وهناك نفق متصل منه إلى ميدان التحرير..
كل ما يقوله غريب وجديد، هتف «فلفل» مندهشا: كيف عرفت كل هذا؟
اكتفى الشاب بأن يقول له فى ما يشبه الأمر:
- هيا، ساعدنى..
وجد «فلفل» نفسه يندفع معه، كان هناك قوة آسرة فى هذا الشاب جذبته إليه، هى التى جعلته ينقذه دون أن يعرفه، وجعلته يهبط معه للمخزن المظلم ويساعده على فتح هذا الباب الغامض، كان مندهشًا من كلماته عن النفق، فالتحرير ليس قريبا، يبعد حوالى من ثلاثمئة متر من هذا المكان، ومن المستحيل أن يمتد نفق تحت الأبنية الضخمة والشوارع المتقاطعة، أصدرت المفاصل الصدئة للباب صوتا كصرخة خافتة، لكنه بدأ ينزاح ببطء، كشف عن هوة مظلمة، وهبت رائحة مكتومة وعطنة، رائحة هواء لم يتجدد منذ سنوات طويلة، أخذا يسعلان معا، هواء مشبع بغبار قديم، مثير للحساسية، وشعر «فلفل» برهبة وهو يراقب الفراغ المظلم، وهل هذا النفق موجود بالفعل، قال الشاب بصوت مرتعد من شدة الإثارة:
لا بد أن هناك ضوءًا هنا..
مد «فلفل» يده وأخذ يتحسس الجدار بجانب الباب، كانت رطبة، مغطاة بقطرات من الماء، وارتعدت أصابع «فلفل» وهو يلمس بروزا صلبا، كان زرا قديما خشن الملمس، لواه «فلفل» على جنب، لكن الظلام ظل سائدا، ربما كان المصباح محترقًا، وربما لم يكن هناك مصباح أصلا، أدار المفتاح للناحية الأخرى، وشق الظلام ضوء قليل، كأن شمس صغيرة قد ظهرت من مكان ما، انزاح الظلام، ظهرت عدة درجات أخرى مؤدية إلى أسفل، هبوط آخر إلى عمق الأرض، من الذى يتصور أن المقهى يحتوى على كل هذه الأسرار، هبط الشاب الدرج بسرعة، تقافز على الدرج كأنه يألف المكان ويعرف أين يمضى، هبط «فلفل» خلفه، وجدا نفسيهما فى غرفة أرضية أخرى، أصغر قليلا من المخزن الذى يعلوها، لا توجد نوافذ ولا فتحات أخرى، غرفة مصمتة لا يوجد لها إلا مدخل واحد، ومصباح صغير مغطى بالأوساخ يتدلى من السقف، هتف الشاب:
- ألم أقل لك..
نظر «فلفل» مندهشًا إلى حيث يشير الشاب، كانت هناك آلة صغيرة وغريبة من الحديد الأسود، مرتكزة على الأرض فوق قوائم معدنية، مثل أرجل غائرة فى الأرض، وفى وسطها عجلة دورة مرتبطة ببعض التروس الصغيرة، اقترب «فلفل» منها، دار حولها متأملا، كانت أشبه بحيوان معدنى محبوس فى عتمة هذه الغرفة ورطوبتها، مد يده وتحسسها بحذر، كانت باردة وخشنة بعض الشىء، تساءل: ما هذه الآلة؟
قال الشاب: إنها مطبعة.. مطبعة قديمة تدار باليد، لا بد أنها تعود إلى زمن الثورة..
قال «فلفل»: لماذا أنت متأكد هكذا؟
تلفت الشاب حوله، رأى عدة أوراق متكومة فى أحد الأركان، تناولها الشاب ونفض ما عليها من أتربة، تأملها، كانت مطبوعة عليها صور باهتة وبضعة سطور من الكلمات عليها بقع سوداء صغيرة، كانت صورة لرجل عجوز، شاربه أبيض طرفاه مبرومان، وعلى رأس طربوش أسود، لا بد أن لونه الحقيقى كان أحمر، هتف الشاب فى فرح: انظر.. إنها صورة زعيم الثورة.. سعد زغلول..
كانت صورة باهتة، توشك أن تنمحى، لكن «فلفل» أمسكها بأصابع مرتعدة، كانت بالفعل صورة الزعيم العجوز، كان قد رآها أكثر من مرة، ولا يدرى لماذا كان يعتقد أنها غير حقيقية، كل الصور القديمة كانت تبدو أمامه غير حقيقية، لكنها فى عتمة هذه الغرفة المخنوقة الهواء، تبدو حقيقية ومؤكدة.
قال «فلفل»: كيف كانت هذه الثورة؟
قال الشاب: كانت ثورة عظيمة من ثورات مصر.. كان الإنجليز يحتلون البلاد، والمظاهرات ضدهم لا تهدأ، مثل هذه الأيام، انتهت الحرب العالمية الأولى بعد أن أنهك المصريون تمامًا، أخذ الإنجليز أموالهم ومحاصيلهم وبهائمهم، وساقوا الفلاحين للعمل فى خدمة هذه الحرب، وعندما انتهت أخيرا كانت كل الشعوب تحلم بالحرية والاستقلال، وكان من حق مصر أن تحقق هذا الحلم، لذلك فقد تألف وفد من كبار رجالها مصر وعلى رأسهم ذلك المحامى الوطنى سعد زغلول، كانوا يريدون السفر إلى باريس لحضور المؤتمر الذى عقدته الدول التى انتصرت فى الحرب ويطالبونها بالحرية التى طال انتظارها، لكن الإنجليز رفضوا خروج الوفد، وقبضوا على كل أعضائه ونفوهم إلى خارج مصر، إلى جزيرة مالطا، وهكذا بدأت الثورة، ثار الطلبة أولا ثم تبعهم العمال والفلاحون، انتشرت الثورة فى كل مدن مصر، وحاول الإنجليز مقاومة الثورة، قتلوا الثوار بعنف ووحشية، سقط عشرات الضحايا، لكن الثورة لم تهدأ ولم تتوقف، واستمرت على مدى عامين، حتى عاد سعد من المنفى هو ورفاقه وشكلوا حكومة مصرية وأعطى الإنجليز وعدا بالاستقلال.. كانت ثورة 19 هى البداية لحرية مصر..
سكت الشاب وهو يلهث، وتعجب «فلفل» من أن الشاب على الرغم من سنه الصغيرة فهو يعرف الكثير، فجأة سمعا صوت حركة، التفت «فلفل» مفزوعًا نحو مدخل الغرفة، أعتقد أن صاحب المقهى قد أحس بما يحدث وجاء ليستطلع الأمر، لكن المدخل كان خاليًّا، الصوت كان قادمًا من قلب الغرفة، الآلة الحديدية القديمة تتحرك، العجلة تدور والتروس تتداخل، تراجع الشاب من أمامها، هتف «فلفل» مندهشا:
- يا ربى.. المطبعة تعمل..
أجل.. كانت المطبعة تدور، تهتز أجزاؤها فى غبطة كأنها سعيدة بعودتها إلى الحياة، تغيرت رائحة الهواء داخل الغرفة، أصبح لها رائحة حبر المطابع، نفاذة مختلطة بالنشادر، ثم بدأت تخرج الأوراق من مكان خفى فى داخلها، كان صوتها يعلو كأنها حيوان صغير لا يكف عن الدمدمة، فى البداية كانت الأوراق خالية، تتساقط على الأرض، كأن الآلة تحاول أن تتخلص مما فى داخلها، ثم بدأت تظهر على الأوراق شخبطات وبقع سوداء، ثم تلاقت الخطوط وانتظمت البقع، تناول الشاب واحدة من الأوراق وحدق فيها مندهشًا، تكونت صورة لشخص ما، فلاح مصرى، على رأسه عمامة، وعلى شفتيه ابتسامة شاحبة، ينظر نحوه فى دعة واستسلام، كأن عمره كله قد تجمد على صفحة هذه الورقة، تأملها الشاب قليلا، ثم قرأ الكلمات الموجودة تحتها، قال بصوت خافت:
- اسمه فرغلى عبد المقصود، إنه واحد من شهداء ثورة 19، مات يوم العاشر من مارس فى الفيوم..
تناول «فلفل» الورقة ونظر إليها مندهشًا، لكن الأوراق استمرت، توالت الصور الباهتة الملامح، طلبة ماتوا فوق كوبرى عباس، ملامح شابة، لم تكمل عامها العشرين، طلبة الثانوى، وجوههم أصغر، لم يبلغوا النضج، لم يتخلوا عن أحلامهم بعد، عيونهم واسعة، كأنهم قد شاهدوا الموت، لكنهم لم يهابوه، لا تبدو عليهم علامات الرعب أو الفزع، بعضهم مات فى ميدان الإسماعيلية، وبعضهم ماتوا أمام مدارسهم، كانت هناك أيضا صور للعمال، عمل الورش وعمال الترام والسكة الحديد، يرتدون «عفريتة» الشغل، البعض منهم ماتوا داخل الورش، كلهم ماتوا برصاص حى، مباشر اخترق قلوبهم ورؤسهم، تركوهم ينزفون، قال «فلفل»:
- لم أكن أعرف أن الضحايا بهذه الكثرة.
تعلو كومة الأوراق على الأرض، لم يعودا قادرين على الاقتراب منها، أو مواصلة قراءة بقية أسماء الشهداء، ثم توقفت المطبعة فجأة، ساد الصمت على الغرفة، تنهد «فلفل» فى ارتياح وهو يقول: الحمد لله، لم يعد هناك المزيد من الموتى..
قال الشاب فى صوت مخنوق: إنهم شهداء..
أومأ «فلفل» برأسه موافقًا، كان قد أخطأ التعبير، ولم يعد يحتمل المزيد، قال:
- يحسن بنا أن ننصرف..
سارا ببطء نحو المدخل، كانت المطبعة وكومة الأوراق بجانبها غارقة فى الحزن، لكن قبل أن يعبرا المدخل عاد صوت المطبعة، بدأت تتحرك من جديد، نظر إلى بعضهما فى خوف، قال «فلفل»: اتركها..
كان وجه الشاب أصفر وفمه جاف قال: يجب أن نعرف ماذا تريد أن تقول لنا.
عاد إلى منتصف الغرفة، وقف يراقب المطبعة وهى تدفع من جوفها بكومة جديدة من الأوراق، لم تسقط على الكومة السابقة، لكنها صنعت لنفسها كومة أخرى بجانبها، انحنى الشاب وتناول ورقة جديدة، قال: إنها صور لشهداء جدد..
عاد «فلفل»، وقف بجانبه يتأمل الصور الجديدة، كانت أكثر وضوحًا، ملامحها محددة، والشعر أطول قليلا، كانت لشاب صغير..
قال «فلفل»: لقد أخذت هذه الثورة الكثير من الشهداء..
رد الشاب فى صوت مرتعد: إنها ثورة أخرى.. لم تحدث بعد..
شهق «فلفل» مندهشًا، كان هذا أمرا غريبا، هل هذا معقول، بعد كل هذه السنوات من الصمت والخوف والخنوع تشتعل ثورة أخرى، نظر إليه مستطلعا، كانت الورقة ترتعش فى يده، قال الشاب:
- ستحدث ثورة فى يناير من عام قادم، ثورة هائلة ستطيح بالنظام، سيشارك فيها الشعب كله، ويسقط الكثير من الشهداء..
ظلت الصور تتوالى، شباب صغار، زهور حزينة، طلبة وشباب فى مقتبل العمر، ثم شهق الشاب، كانت هناك صورة قد اندفعت من المطبعة وسقطت تحت قدميه مباشرة، مد أصابعه وتناول الصورة ونظر فيها وهتف بصوت لا يكاد يسمع:
- إنها صورتى..
اقترب «فلفل» وألقى نظرة سريعة، كانت بالفعل صورة الشاب، شعره أطول قليلا، ولحيته غير محلوقة، لكن الملامح نفسها، ولأول مرة يعرف أن اسمه «يوسف عبد المغنى، استشهد يوم 28 يناير 2011، كل شىء واضح ومحدد، توقفت المطبعة، وتوقف سيل الصور الحزينة، وساد صمت مطبق فوق الغرفة، وظل وجه الشاب جامدا، أوشك «فلفل» أن ينفجر باكيًّا، لكنه تماسك، وضع يده على كتف الشاب، قال فى همس: كل هذا فى علم الغيب..
قال الشاب فى صوت خافت: أنا لست خائفًا..
وطوى الورقة ووضعها فى جيبه، وضغط «فلفل» على كتفه فانصاع الشاب وسار معها، عبر المدخل، وصعدا الدرج، ترك «فلفل» الباب مفتوحًا، لم يرد أن يترك الشاب يسير وحيدا، عبر المخزن وعاودا الصعود إلى أعلى، أغمض «فلفل» عينيه من شدة الضوء، وسمع ضجيج المقهى والطرقات والحياة تضج من حولهما، كان المقهى قد أصبح مزدحمًا، الزبائن يجلسون حول كل المناضد، وصاحب القهوة غاضب محتقن الوجه، لكن «فلفل» لم يبال به، أوقف الشاب عند مدخل المقهى، وتقدم هو ونظر إلى كل الاتجاهات، حاول أن يتبين إن كان هناك أحد من رجال الأمن أم لا، أشار إلى الشاب وهو يقول:
الشارع آمن، يمكنك أن تخرج..
ردد الشاب الكلمات نفسها: أنا لست خائفًا..
وخرج من المقهى، سار بخطوات بطيئة، لكن رأسه كان مرفوعا.
توقف «نجيب محفوظ» عن القراءة، رفع وجهه وظل يحدق ساهمًا، كان «فلفل» يراقبه من بعيد، لم يتصور أن يظل هذا الكاتب الكبير منهمكًا كل هذا الوقت فى قراءة كراسته، حمل كوبًا من الماء واقترب من وضعه على المنضدة أمامه، رفع «نجيب محفوظ» وجهه نحوه، رأى «فلفل» دموعًا تنحدر من عينيه، تساءل «فلفل» فى رهبة:
- هل تبكى يا أستاذ؟
قال «نجيب محفوظ»: أجل يا «فلفل»، أبكى من أجل هذا الشاب.. زمن أجل كل الشباب الذين سيدفعون ثمن الثورة.. ما كتبته غريب ومحير يا «فلفل»..
توقف عن الكلام قليلا، أخرج منديلا من جيبه وحاول أن يمسح به عيونه، لكنها كانت ممتلئة بدموع أخرى، عاد يقول:
- هذا اليوم الذى قلت أنه سيجىء.. يوم الثورة.. كنت أتمنى أن أعيش حتى أراه..
وأعطاه الكراسة، ونهض خارجًا من المقهى وظل «فلفل» يتابعه ببصره حتى غاب وسط الزحام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.