تبدو الإجراءات الروسية بشأن مصر، والتى بدا أنها الأكثر صرامة من غيرها، غير مفهومة من المواطن المصرى مع الترويج الإعلامى المكثف للصداقة المصرية الروسية، ووضع كثير من شواهد التحالف الوثيق أمام الرأى العام، لكن المؤسف أن تبدو غير مفهومة للسلطات فى مصر أيضًا، بما ينعكس على ارتباكها مع كل قرار تتخذه موسكو. عمليًا، روسيا كغيرها من دول العالم التى تكترث بحياة مواطنيها وأمنهم، من حقها أن تقلق من الإجراءات الأمنية فى المطارات المصرية، خصوصًا وهى الدولة التى راح لها ضحايا فى الطائرة المنكوبة التى سقطت فى صحراء سيناء. لكن بمقارنة رد الفعل الروسى مع ردود الأفعال الغربية يبدو الأكثر صرامة جدًا، بما يجعل حتى التكهنات عن المعلومات الاستخباراتية التى تبادلتها موسكو مع لندن، ولم تطلع القاهرة عليها، لا تكفى وحدها لتبرير هذه الصرامة، خاصة من دولة صديقة، آفاق التحالف معها كانت واسعة ومرشحة للنمو والتطور، لأن المعلومات التى فى حوزة لندن، لو بهذه الخطورة الملحة، لاتخذت العواصمالغربية إجراءات مماثلة فى الصرامة تجاه مصر ومطاراتها وطائراتها. أنت هنا أمام لغز ربما تتكشف لك حوله مزيد من المعلومات فى الأيام القادمة، خاصة أنك تتعامل مع نظامين فى موسكووالقاهرة، منغلقين إلى حد كبير، والمعلومات عنهما خاصة المرتبطة بالكواليس لا يتطوعان بإعلانها. لكن التحليل المنساق خلف الحادث فحسب وتداعياته، لا يكفى وحده لفهم المواقف الروسية المتأرجحة بين الانفتاح على مصر فى ملف، والتعامل معها بصرامة فى ملف آخر، لكن فى المسألة شواهد سياسية، تعود بى شخصيًا لما كتبته منذ وقت مبكر بعد إعلان السيسى ترشحه عن غياب البرنامج السياسى الذى يسمح لك بفهم رؤية الدولة المصرية تحت رئاسته، واتجاهاتها وانحيازاتها. تحتاج أن تضع يدك على ملامح للسلطة فى مصر، بعد مرور ثمانية عشر شهرًا تقريبًا من تولى الرئيس السيسى الرئاسة، فتجد أنك واقع فى حيرة بالغة على كافة الأصعدة، سواء السياسات الخارجية أو الداخلية. مثلما استقبل الشارع المصرى السيسى بتصورات مسبقة، فالبعض توسم فيه عبد الناصر جديدا، لكنه لم يذهب لبناء سياسة واضحة وثابتة وقابلة للنمو فى استلهام طريق عبد الناصر، كذلك بدا للبعض ساداتيًا فيما يفتقر نظامه خيال السادات وثوابته وإصراره عليها، كما يفتقر ترتيبه حتى فى عفويته، حتى مبارك الذى يروج البعض أن السيسى أعاد نظامه وسياساته، ما زال ذلك أيضًا غير محدد، يعتمد على ظواهر الأشياء، فيما تثبت المشاكل والأخطاء التى تقع فيها السلطة، وطريقة الأداء عمومًا، أن النظام يفتقر أيضًا الكثير من عقل نظام مبارك وحكمته وبروتوكوليته الصارمة، ووضوحه حتى فى القضايا غير الشعبية، كالخصخصة والعلاقات مع إسرائيل مثلًا. ربما تعتبر تلك الضبابية مزايا، وتقول إن النظام يأخذ من كل تجربة ما يناسبها، لكن هذا الأخذ غير متبلور فى رؤية محددة لا على مستوى السياسات الاقتصادية أو السياسية أو حتى العلاقات الدولية، كما لا يبدو أن هناك أفكارًا مستقلة لها جذور ثابتة يمكن أن تتوقع مستقبلها ونموها فى حال الإصرار عليها، والسير خلفها. ما علاقة ذلك بروسيا؟ الروس مثلهم مثل أى محلل حائر فى تحديد طبيعة النظام فى مصر، فموسكو التى تبنى سياساتها الخارجية على معادلة حيوية الحركة ومحاولة ملء الفراغات والمساحات واستعادة مواقع النفوذ، بهدف يمزج بين البرجماتى الذى يخص الشخصية الروسية، والأخلاقى الذى يُصر على بنا عالم متعدد الأقطاب غير مرهون بقيادة واحدة ولا رؤية واحدة. لكنها فى ذات الوقت لا تستطيع أن تحدد، هل النظام فى مصر لديه رغبة فى تعزيز استقلاله، والحركة وفق رؤية تخدم مصالحه ومشروعه السياسى لتحقيق هذا الاستقلال، أم يريد استعادة مكانته كحليف موثوق فيه للغرب والولايات المتحدة، بما يفتح أمامه أبواب الرعاية الغربية؟ يمكن أن تعتبر مثلًا أن مكافحة الإرهاب هو الثابت الوحيد فى السياسة المصرية الذى تتحرك فى اتجاهه، وتستطيع أن تقول إن لديها رغبة وإرادة فى المضى قدمًا فيه، الروس كذلك يعتقدون إن مكافحة الإرهاب أولوية، وبالتالى تلك نقطة تلاقى حقيقية، عززها أن مصر أيدت التدخل الروسى فى الحرب على التنظيمات الإرهابية فى سوريا. ولأن الروس يتحركون لبناء سياسات ثابتة وتعزيز تحالفهم بشأن الحل فى سوريا القائم على القضاء على الإرهاب أولًا، ثم الحل السياسى غير المشروط، فقد سعت لتعزيز موقفها بحلفاء فى مؤتمر فينا، وبذلت جهدًا لتكون مصر حاضرة وممثلة لتعزيز رؤيتهما المشتركة والمعلنة عن الحل فى سوريا، فإذا بمصر تتخذ فى المؤتمر موقفًا ضبابيًا غير ممسوك ولا مؤثر ولا يُظهر دعمًا واضحًا لموسكو، ولا يشدد على ما هو معلن حتى من ملامح الرؤية المصرية المعلنة حول مكافحة الإرهاب والحفاظ على الدولة السورية. هنا يمكن أن تفهم بعض الحيرة الروسية، خاصة مع خبرات سابقة مع مصر قدم فيها الروس كل أوجه الدعم والتضامن مع القاهرة، سواء فى بناء جيشها أو بناء مصانعها ومشروعاتها القومية، ثم أطاح بهم السادات فى لحظة لصالح الأمريكان فأخرجهم من المنطقة. أنت هنا لا تشجع النظام على أن ينضوى تحت العباءة الروسية أو الغربية، ولا أن يضحى بموسكو لصالح الرياض أو العكس، المسألة تحتاج إلى ملامح واضحة، وسياسات ثابتة تدعم هذه الملامح، لأن حتى ما هو مطلوب منك ومتسق مع قناعاتك وسياساتك المعلنة لا تدعمه فى لحظة الجد؟ فماذا لو تفاوض معك حليف على أمر فى غير قناعاتك؟ ليس مهمًا الآن ما الذى سيختاره النظام، طريق عبد الناصر أم السادات أم مبارك أو حتى طريق رابع، المهم أن يختار وأن يعض على اختياره، ويتحرك فى اتجاه وفق ملامح واضحة ومعلنة، على الأقل حتى نفهمه أكثر، ويفهمه العالم، العدو فيه والصديق، دون هذا الفهم ستظل خطواته محل شك وتأويل دائم، وكثير من الحذر.