أقول وبكل بساطة إن الدولة المصرية تهدّد استقرارها بنفسها وبيدَيها، ذلك أن فساد وزير في وزارة ثم إقالته ومحاسبته لا ينتقص من الوزارة كلها، بل على العكس فهو يضيف إليها ويرفع من أسهمها، إلا إذا أُقيلت كلها بعد ذلك مباشرة مثلما حدث! حتى ولو كانت الإقالة لأسباب أخرى تتعلّق بالكفاءة ولا صلة لها بواقعة الفساد نفسها من قريب أو بعيد، إذ سيبقى التوقيت والتعاصر يمثلان إصابة في مقتل. ومما لا شك فيه أن المهندس إبراهيم محلب كان يستحق خروجًا أكرم وفي توقيت مختلف، لكي لا يقترن هذا بذاك، والأمر ضروري للغاية على ثلاثة مستويات، الأول هو المستوى الإنساني البحت، فالرجل بذل جهدًا كبيرًا وأرهق نفسه إلى أبعد مدى، ولا ينكر هذا إلا جاحد. حتى ولو أتى هذا الجهد حابط الأثر محدود النتائج والأسباب واضحة كالشمس، فالرجل وبكل بساطة ليس استراتيجيًّا صاحب خطط أو رؤى، ولكنه رجل فني تنفيذي -مهندس- يتحرّك بنفسه ويذهب هنا وهناك، بينما وزراؤه جالسون في التكييف يصنع أغلبهم الأعاجيب! وعلى ما يبدو أنه قرر أن يكون هو الوزارة كلها، ليكون رئيس نفسه فقط، يدور في كل البلاد هنا وهناك في كل مكان، ليحل المشكلات اليومية بغير تخطيط، ويزور المعاهد الطبية والعلاجية بينما وزير الصحة المختص غائب.. إلخ.
ببساطة أظن أن الرجل قد بذل أقصى جهده، ولعلّه من الأفضل نزولًا على اعتبارات الملاءمة السياسية وعلى الطريقة الأمريكية، وهو يستحق أن يعقد الرئيس مؤتمرًا صحفيًّا بمقر حكمه، ليلقي بنفسه كلمة يشيد فيها بجهوده ثم يصافحه ويشكره بينما الأخير يقف بجانبه، ثم يسمح له بإلقاء كلمة مختصرة هو الآخر، هو أمر واجب ولو من باب الحرص على المصلحة العليا والمظهر المستقر للدولة، وحتى على مستقبل الوزارات القادمة وأدائها. لكن إقالة الوزراء عندنا لها طرق تاريخية أخرى أجادها السادات بالذات كل الإجادة!
أما المستوى الثاني فهو أن الرجل لم تكن هذه هي طامته الوحيدة فحسب، فهو لم يفشل في تنفيذ أي خطة، ولكنه عمل في ظل عدم وجود خطة أصلًا! ومن هنا اتّسعت الفجوة من الناحيتَين فظهر التخبُّط، فلم يكن لدى الرئيس إبان ترشّحه أي برنامج انتخابي يومًا من أي نوع سوى أنه أنقذنا من الإخوان، ثم كانت كلماته الأعلى والأوضح بعد ذلك هي كلمة «مافيش»! ثم كلمة «امشوا على رجليكو» بطريقة الإدارة العسكرية التي هي مقلقة مخيفة ولا تصلح في إدارة الدول دون أن أُتَّهم بالتسطيح المعتاد بأني خائن ولا أحب جيشنا الذي أعشقه طبعًا، وأخيرًا بعد «مافيش» الشهيرة تأتي كلمته الأشهر أن مصر حتبقى قد الدنيا.
أنا لا أقصد الانتقاص من قدر أحد، وللكل احترامه، متمنيًا أن يقابل النقد بالفهم وسعة الصدر، بينما أحاول أن أمسّ موضع المرض، لكي تبقى هذه الدولة واقفة على قدمَيها. نعم الأمن في حال أفضل كثيرًا والإرهاب يتراجع بالدم الغالي، ونعم مشروع قناة السويس عظيم ورائع، ولكنه لا يمكن تسميته مشروعًا قوميًّا، لكنه مجرد بند من مشروع قومي متكامل وضروري يبقى غائبًا وهو النهوض بمصر كلها من كل النواحي، ولكن كل ما جرى كان إرهاصات مرتجلة سمعنا عنها ولكنها ساحت بعد ذلك وذهبت مع الريح على طريقة كلارك جيبل وكارول لومبارد!
مشروع نهر الكونجو الذي أشار إليه الرئيس أخباره إيه؟ والحقيقة أن الرسالة الضمنية الوحيدة التي وصلتني من تصريحه هذا هي أمران، أولهما أنه لعل مفاوضات سد النهضة لا تسير على ما يُرام ما دفع بمصر للبحث عن حل جذري بديل، وثانيهما ما ستقرؤه إثيوبيا نفسها من سياق التصريح أن مصر قد استسلمت أمامها لأحكام الأمر الواقع الذي راهنت عليه! توقيت خاطئ مرتجل لوعد لم يترجم إلى حقيقة أبدًا، وهاهي ذي ترفض مجرد الاجتماع مع مصر.
ولطالما رأيت أن مجرد التهديد جديًّا بضرب السد سوف يحدث أثره حال تعثُّر المفاوضات، لأن هذا السد سوف يكون أخطر على مصر بآلاف المرات من «داعش» و«بيت المقدس» وإسرائيل كلها معًا! فعلها مبارك ذاته عندما قال «على جثتي»، ولم تجرؤ إثيوبيا على بنائه في عهده، وكان في هذا الكفاية وأكثر.
استغلّت إثيوبيا ظروفنا وأتمنى أن لا يكون الوقت قد فات! تصريح الرئيس بتحويل العلمين إلى مدينة كبرى دون أن نرى ولا خطوة تنفيذية واحدة، ناهيك بالعاصمة الإدارية، بحيرتا البردويل والبرلس اللتان ردمت منهما مئات الآلاف من الأفدنة وتلوث الباقي منهما، زارهما رئيس الوزراء مرة واحدة وكان تصريحه وقتها بأن الإجراءات ستتخذ للحفاظ عليهما ومنع التعديات.. ودمتم، تصريح وزير التعليم بالاستعانة بخبراء من اليابان لإصلاح التعليم.. سبقه أو لحقه صفر المسكينة مريم.. ودمتم، إرهاصات إرهاصات.. هذا هو التخبُّط الذي عنه أتحدَّث والأمر فيه من الكثير مما لا يتسع له هذا المقال.
ثم المستوى الثالث والأخير وألخصه في سؤال بسيط: إذا كان هذا الخروج قد جرى بهذه الطريقة والتوقيت فكيف سيكون أثر ذلك على عمل الوزارة، بل وكل الوزارات القادمة؟ ولماذا لم يوضع هذا الاعتبار الحيوي في الحسبان ونحن نتكلم عن استقرار مصر؟
رهاني المنطقي أن الوزراء الجدد إن قبلوا التكليف أصلًا فسوف يكونون حتمًا أصحاب أيادٍ مرتعشة، مصابين جميعًا بذلك المرض النفسي المعروف لدى الموظفين، كبارهم وصغارهم، والمسمى ب«فوبيا التوقيع»! لعل الوزارة الجديدة لن ترتكب أخطاء كسابقتها، ولكنها يقينًا لن تجرؤ على أخذ خطوة حقيقية إلى الأمام، وسوف يكون شغلها الشاغل هو حفظ ماء الوجه! هذا طبيعي، بل هو الطبع البشري المتوقع لأن اللي ما بيشتغلش كتير ما بيغلطش كتير!
أرى الإسراع بتكريم محلب والوقت لم يفُت، ولأن هذا أمر تحتمه اعتبارات الصالح العام واستقرار البلاد، وللحديث بقية، حديث الخدمة المدنية واستثناءات التوزيع الجغرافي وأثرهما على استقرار الدولة!