كتب- هيثم عبد الشافي ذكر الحبيب.. فقط قال يا طبيبى، فطرب الجميع ومالت قلوبهم وحنت لرؤياه، صرخ بأدب يطلب عفو الرحمن فجادت عيون الحاضرين بكاءً، وما بين نغم وتضرع يَدع الروح هائمة هكذا بين حلاوة الرجاء وخشية رب العالمين. جرب أن تذهب إلى جلساته الخاصة على موقع "يوتيوب"، ثم اكتب العنوان كاملا هكذا، «الشيخ محمد عمران.. جلسة خاصة»، وبعدها اختر واحدة، أي واحدة أمامك، المهم دعه يشدو باسم العلي من حولك، واتركه يردد على سمعك ما يشاء، لا تندهش إذ وجدت الوجع الخفيف يطرق أبواب روحك ويسكرها بعد دقيقتين مثلا.. أنت الآن منشغل بذكر ربك، فطوبي لقلبك، والرحمة والمغفرة اطلبها لشيخنا. الشيخ محمد عمران الذى قُدر له أن يفقد نور عينيه بعد عام واحد من ولادته، عاش أعوامه ال50 مكتفيا بنور بصيرته، يفصل اللحن ويشجيه، يكسى الكلمة بحس كله إيمان ولا يبرح مكانه إلا والملائكة تذكر الخالق من حوله، تجده فى جلساته كلها يشدو بقلب مَشوُّقا برفقة "السميعة"، ويبصر بنظارته السوداء ما لا نبصره، ويصيب قلوب العاشقين بعذب الكلام فتنطلق آهاتهم تمتعا، يزيد عليهم يصرخون لذة وغراما، ولما يرق ويذكر جنات الخلد تفرح كل نفس مطمئنة وتذوب قلوب العاصين. علم النغم شيخنا ولد فى مدينة طهطا بمحافظة سوهاج 15 أكتوبر 1944، أتم حفظ القرآن الكريم في سن العاشرة على يد الشيخ محمد عبد الرحمن المصرى ثم جوده على يد الشيخ محمود جنوط في مدينة طما. بعدها حضر إلى القاهرة قبل أن يتم عامه الثاني عشر والتحق بمعهد المكفوفين للموسيقى، حيث تعلم أصول القراءات والإنشاد وعلم النغم والمقامات الموسيقية وفن الإنشاد الدينى على يد سيد موسى الكبير. وبحثًا عن لقمة العيش لا أكثر، عمل "عمران" فى شركة حلوان للمسبوكات، فجعلته قارئًا للقرآن الكريم بمسجدها الكائن بموقع الشركة، وذاع صيته وانتشرت شهرته بين العمال إلى أن تقدم بعد ذلك لاختبار الإذاعة المصرية في بداية سبعينيات القرن الماضى، وتم اعتماده مبتهلا بعد نجاحه المتفوق والمتميز فى امتحان الأداء. عمران كان من أوائل الذين أحيوا الأفراح بقراءة القرآن والابتهالات، كما أنشد وشارك في الغناء للعديد من البرامج الدينية الغنائية وفي الاحتفالات بالمولد النبوي وآل البيت والأمسيات والمناسبات التي أقيمت بدار الأوبرا المصرية، وكذا سجل في الإذاعة عددا كبيرا من الأناشيد والابتهالات منها أسماء الله الحسنى وابتهالات أخرى عدة، كما لحن له موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وسيد مكاوى وحلمي أمين. الشيخ الكفيف، ربما لم يقرأ نوتة موسيقية واحدة، لكن كان يمكنه اللعب علي مشاعرك بحرفية شديدة، ولا يتركك إلا والشجن يدور بداخلك، ربما يوقظ الفرحة والأمل أو يقتل خوفا ما يدور برأسك، إذ قال فيه الشيخ مصطفي إسماعيل، أهم شيوخ التلاوة في مصر والعالم الإسلامي، "لو استمعتم بتمعّن للشيخ محمد عمران لوجدتموه قارئا يتقن علم المقامات الصوتية على الاطلاق، فقد استمعت له كثيرا من تلاوات إذاعية وخارجية وابتهالات وموشحات فما وجدت منه نشازا ولا خروجا عن المقام الذى يقرأ به أبدا". في بيت عبد الوهاب ربما وافق على الفور أو كانت هناك صداقة قوية تجمعهما، لكن في الحالات كلها وافق الشيخ محمد عمران على دعوة موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، وذهب لمنزله طواعية برفقة الموسيقار عبده داغر، عازف الكمان المشهور، وصديقهما الثالث "عبدالله" عازف العود. في هذه اللليلة، جلس شيخنا مبتسما فهو في حضرة عبد الوهاب، كان على يمنه عبده داغر يقسم النغم ويطوع المذهب، وعلى يساره جلس عبد الله يشد أوتار العود استعدادًا لليلة جديدة ومختلفة، دقيقة واحدة كانت كافية للتجهيز خاصة بعد أن تجاوب معهم عبد الوهاب وحياهم قائلا: "الله الله"، بعدها رد عمران: "أحنا مش مجهزين يا أستاذ، بس هنقول حاجة إن شاء الله هتعجبك"، فضحك موسيقار الأجيال وقال له: "كفاية تواضع". فى البداية كان "عمران" يميل برأسه يمينا ويسارا مستمتعا بتقاسيم الكمان والعود ثم رمي رأسه مرة إلى الأمام وانطلق شدوا يرجو رضا ربه في رائعته "يا سيد الكونين"، وطوال ال40 دقيقة -مدة القصيدة-، كان عبد الوهاب هائما وكلما ذهب شيخنا لمقام جديد يقول له: "يا واد يا واد"، فيرد عمران ضاحكا كعادته "العفو ياسيدى". الإعجاب كان واضحًا على ردة فعل عبد الوهاب في هذه الليلة، فبخلاف تمتعه بصوت شيخنا وثنائه على طريقة الأداء، صرخ مرة واحدة ليقول له: "يا جبار يا جبار"، ثم استفزه: "جارى كمان لو كنت شاطر"، وفي أدب شديد لم يجد شيخنا رحمه الله إلا كلمة "العفو" ليرد بها على موسيقار الأجيال الذي لم يمل من الثناء على أدائه بكلمات يعرف "السمعية" قدرها جيدا مثل: "يا ساتر، آه ياحبيبى، كده كده". عبده داغر عازف الكمان المصرى، الذى يأتى إليه الطلبة من ألمانيا وإيطاليا وسويسرا، ليتعلموا الموسيقى فى محرابه، ويقدموا عنه رسائل ماجستير، تعلم العزف على العود في سن السابعة، على غير رغبة والده، ثم جذبته الكمان، بعدما شاهد عازف الكمان الكلاسيكى "David Oistrakh"، وتعلمها فى سن العاشرة. في طنطا، بدأ حياته مع المطربة هنيات شعبان، وعمل مع "الصييتة والعوالم" فى الموالد، لم يهجر داغر العود، وأسس ورشة لصناعته. بعدها انتقل للقاهرة عام 1955 للعمل مع إحدى الفرق الموسيقية الشهيرة، وعمل مع أم كلثوم وعبد الوهاب، والتقى بعبد الحليم نويرة، وشاركه تأسيس فرقة الموسيقى العربية. داغر المتمكن من الجُمل الموسيقية المعقدة، لم يتعلم الموسيقى في أكاديمية فنية، ولكن تعلمها من القرآن الكريم، مثل المقرئين والمداحين والمنشدين. يقول: "الموسيقى خُلقت من القرآن"، ووصفته الصحف الأوروبية: "موسيقار من أمة القرآن، تتلبسه أرواح العمالقة العظام مثل باخ وهندل". كوّن داغر ب"الصولو كمان" ثنائيا شهيرا مع الشيخ محمد عمران، فكانت تقام سهرات فنية ببيت "داغر" يوميا، قدما فيها سويا عشرات الأغنيات، مثل "حلم" لأم كلثوم، ومواويل "يا من هواه أعزه وأذلنى"، "فرح الزمان"، "اليوم حان الموعد"، "ناجاك قلبى خاشعا ولسانى". السفر والاستديو كان فضيلة الشيخ الكفيف محمد عمران لا يحب عامل الوقت أثناء تسجيلات الاستوديوهات، لأن الوقت يضيق عليه من الوصول إلى مبتغاه في مغازلة المقامات، بل كان يطير شوقًا إلى الجلسات الخاصة والمناسبات الدينية ومراسم تأبين الموتى فمن خلال تلك المراسم يصل إلى قلوب الناس مباشرة دون حواجز، فهناك يطلب الحضور بشكل عفوي إعادة قراءة آية من الذكر الحكيم مرة أُخرى بنفس الطريقة التي تلاها بها، أو تكرار مقطع من أنشودة مثلا، وهذا يكون دليلا على أن الصوت له أثر على المستمع أو المتلقى. كما كان يكره السفر كثيرا حيث لم يذكر أنه سافر خارج مصر إلا لأداء فريضة الحج والعمرة، رغم أنه تلقى عددا هائلا من الدعوات والعروض الخارجية. الرحيل رحل الشيخ عمران إلى دار الأخرة فى 6 أكتوبر 1994، تاركا مجموعة من التسجيلات الخالدة والنادرة، ناشراً في دنيا الزوال عطر محبته وأثرها فى سيرته الطيبة، والمضحك المبكى أن قرار اعتماده قارئا فى الإذاعة وصل إلى منزله بعد الوفاة بعشرين يوم، لك الرحمة والمغفرة يا شيخ "عمران"، ولنا الأمل كله فى أن يجود الزمان علينا بصوت جديد يطيب القلوب ويريحها.