إنهم موجودون من حولنا لكننا دائمًا نحاول أن لا نجعلهم ضمن دائرة رؤيتنا واهتماماتنا، نتناسى وجودهم فى الحياة، وربما اعتقد البعض منا أنهم انقرضوا منذ زمن، حتى ولو اكتشفنا مصادفة أنهم يحيطون بنا، فسوف نسرع بتجاهلهم أو نكتفى بالنظر إلى البعيد، إنهم أصحاب المهن الهامشية، بداية من ماسح الأحذية وبائع العرقسوس وعامل النظافة وعاملة المستشفى إلى صانع الصلصال وبائع المناديل والبطاطا والعامل الأُجرى والمتجوّل وسائق الحنطور. القاصة والكاتبة الشابة رانيا هلال وضعت يدها على هذا العالم، فجعلتهم أبطال مجموعتها القصصية «دوار البر». حاولت القاصة من خلال النصوص رصد تفاصيل حياة هؤلاء البشر وأحلامهم، دون أن تبدو تجاههم من خلال السرد نظرة استشراقية أو تقديمهم للآخر بشكل نمطى أو فلكلورى، بل قامت بتقديمهم بشكل إنسانى عبر لغة محايدة، قدمتهم من الداخل بعيدًا عن النظر إليهم من الخارج، وقد وضح هذا فى اللغة، كما حاولت رصد رؤيتهم للعالم بعيدًا عن فكرة الصراع الطبقى أو العدالة الاجتماعية بشكلها الصارخ والحاد، فأصحاب هذه المهن هم أناس عاديون بلا أفكار كبرى أو نظريات شكّلت وعيهم تجاه الآخر، هم أقرب إلى الفطرة والتلقائية فى ممارسة حياتهم. فى القصة التى افتتحت المجموعة وحملت اسم «شاى بالنعناع الأخضر»، وهى من أجمل قصص المجموعة، ترصد الكاتبة علاقة صانع الفخار مع الطين وكيفية معاملته بشكل يقترب من الوقوع فى غرامه ومحبّته أو الهوس به، هذه العلاقة التى تثير غيرة زوجته، حيث تظل تراقب يديه وأصابعه، وهما يشكلان الطين، وهى تحلم بداخلها بأن تصبح مكان عجينة الطين، أو أن ينظر إليها زوجها باعتبارها قطعة طين، لم يكن الاحتياج هنا جسديًّا أكثر منه احتياجًا نفسيًّا يعبّر عن الرغبة فى التواصل واستقبال الحنان من الطرف الآخر. الزوجة تفشل طيلة الوقت فى محاولاتها المتكررة فى لفت أنظار صانع الفخار إليها، حتى إنه ينسى وجودها بجواره مستغرقًا فى العزف على الطين، وكأنه «انجذب» بالتعبير الصوفى إلى هذا العالم. نجحت رانيا هلال فى تناول عالم أصحاب المهن الهامشية ببساطة، كما نجحت فى الكشف عن إنسانيتهم، وكأنها قامت بمسح الغبار عن الصورة التى يراها الناس لهم، وأعادت تقديمها لنا بشكل أكثر رحابة وصدقًا، حيث بدوا فى كثير من القصص كأناس رحماء يمتلكون من العاطفة ما يجعل بائع العرقسوس الذى تأكل الشمس جسده يتغاضى راضيًا عن ثمن المشروب لأحد تلاميذ المدرسة الفقراء. يمكن القول إن الكاتبة كانت منجذبة إلى عالم هؤلاء الأشخاص، بل ومتعاطفة معهم، ومتورّطة فى حياتهم وتفاصيلهم الصغيرة، حتى لو كانت الحياة القاسية تصيبهم بالتخبّط ودوار يشبه دوار البحر، تشذّ عن ذلك قصة «دم ثقيل» والتى قدمت عاملة نظافة المستشفى بشكل شرير يتعامل مع الألم الإنسانى بروح باردة. رانيا هلال نجحت فى اختيار فكرة مجموعتها بذكاء، ونجحت أيضًا فى عدم الوقوع فى فخ الكتابة عن الهامش أو الأماكن العشوائية، سواء عشوائية المكان أو الإنسان أو حتى الوقوع فى تقديم القبح بشكل نمطى وتقليدى وبلا تجديد، فاختارت عن قناعة ومعرفة الكتابة عن أصحاب المهن الهامشية، وبالتأكيد هناك فرق بين الاثنين، وأعتقد أنها لم تضع بعد القلم من يدها وما زال لديها المزيد عن هذا العالم