بالرجوع إلى الأدبيات الاقتصادية يعتبر البنك المركزى بنك البنوك، ولذلك فإن مسؤوليته جسيمة فى إدارة السياسة الاقتصادية. إن متابعة المشهد الاقتصادى ودور البنك المركزى فى إدارة السياسة النقدية كثيرًا ما تثير فى رأسى العديد من التساؤلات وعلامات التعجب. وقبل أن أبدأ بتفسير هذا الكلام يجب أن أوضح أن أى اقتصاد ناضج وحُر يملك القدرة على التأثير فى النشاط الاقتصادى من خلال أداتَين أساسيَّتَين: الأولى هى السياسة النقدية، والثانية هى السياسة المالية. ويكون استخدام إحدى هاتين السياستَين أو كلتيهما لتوجيه دفّة النشاط الاقتصادى الذى اختل لفترة نحو مسار التنمية المستدامة، والتنسيق بين السياستَين أمر ضرورى حتى لا تتضارب النتائج وتفقد معناها وتأثيرها.. وبالتالى فإن الحديث عن استقلال البنك المركزى لا يعنى اتّباعه سياسات نقدية بعيدة عن التنسيق مع الحكومة وسياساتها المالية. فما الدور المنوط بالبنك المركزى، أى بنك مركزى، القيام به حتى تُدار السياسة النقدية بأسلوب سليم؟ البنك المركزى عليه عدّة مهام أساسية يجب أن يقوم بها: 1 تنظيم عمل القطاع المصرفى بكل مؤسساته من بنوك، والإشراف على عملياته، ووضع أُسس عمله وإدارة نشاطه. وهو أيضًا مقرض الملاذ الأخير للبنوك التجارية وغيرها. 2 تحديد عرض النقود والإشراف على عمليات الإصدار النقدى المنضبط لكل الاقتصاد. 3 القيام بدور بنك الحكومة والمتابع لعملياتها المالية. 4 تطبيق السياسات النقدية المحققة للتوازن، سواء كانت سياسات توسعية أو انكماشية. والسياسة النقدية تسعى لتحقيق ثلاثة أهداف أساسية: أ- خفض معدل البطالة الإجبارية: باستبعاد البطالة الاحتكاكية الناجمة عن انتقال الأفراد ما بين وظيفة وأخرى، فإن ارتفاع معدلات البطالة الهيكلية والبطالة الراجعة للركود الاقتصادى يستدعى التدخُّل بالسياسات المناسبة للعلاج السريع. ب- الحفاظ على معدل التضخُّم عند مستويات منحفضة نسبيًّا، وهو أمر لا يمكن أن يتم الحفاظ عليه سوى باتباع سياسة نقدية حذرة تحول دون انفلات مستويات الأسعار. ج- تحقيق معدل نمو اقتصادى مناسب، والتشجيع على التوسُّع فى الاستثمار من خلال الحفاظ على سعر الفائدة عند مستوى منخفض. ويسهم استقرار سعر الصرف والأسواق المالية أيضًا فى تحقيق هذا الهدف. السؤال هو: إلى أى مدى نجح البنك المركزى فى مصر فى تحقيق أهداف السياسة النقدية الثلاثة؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نتذكَّر ما يلى: أولًا، أن السنة الأخيرة شهدت خفضًا لقيمة الجنيه المصرى مما قيمته 7.4 للجنيه/ الدولار الأمريكى فى بداية عام 2015 إلى 7.83 جنيه/ الدولار الأمريكى فى أغسطس 2015، أى بمعدل 6٪ خلال 8 أشهر. ثانيًا، ارتفع سعر الفائدة على الجنيه المصرى ليصل إلى 12٪ على سندات قناة السويس وعلى الودائع فى معظم البنوك، وليرتفع سعر فائدة الإقراض إلى 14٪ أو يزيد. ثالثًا، أن البنك المركزى اتّبع سياسة شديدة التقييد للتعامل فى العملات الحرة سواء بالبيع أو الشراء داخل أو خارج القطاع المصرفى وقطاع الصرافة. ترتب على هذه السياسة أن استقر سعر صرف الجنيه أمام الدولار لفترة عدة أشهر، ولكن تضاءل المتاح من العملات الصعبة اللازمة لتدبير احتياجات الصناعة من وقود ومواد خام وسلع رأسمالية.. وحتى سلع غذائية وسلع استهلاكية معمرة. بناء على ما سبق، نرجع إلى السؤال الأساسى: هل تمكَّن البنك المركزى من تحقيق أهداف السياسة النقدية؟ فى ظل الظروف التى تمر بها مصر الآن من ضعف معدل النمو الاقتصادى نسبيًّا، وفى ظل وجود طاقات إنتاجية معطلة فى المصانع، ومع ارتفاع معدلات البطالة لتتجاوز 13٪، يصبح من المتوقع أن يتبع البنك المركزى سياسة نقدية توسعية. وقوام هذه السياسة هى تتمثل فى خفض سعر فائدة الإقراض لمستويات منخفضة مشجعة على الاقتراض، وتحريك سعر الصرف بما يحول دون تقويمه بأعلى من قيمته الحقيقية. ولكن ما حدث هو أن السياسة النقدية بمختلف إجراءاتها كانت تعد سياسة انكماشية أو غير مشجعة على التوسُّع. فى تصوّرى أنه فى ما يخص الأهداف الثلاثة للسياسة النقدية يمكن إيجاز تحقيقها فى ما يلى: 1 بالنسبة إلى معدلات البطالة فإنها ما زالت تدور حول معدل 13٪، ولذلك لا يمكن القول بأنه أمكن تحقيق إنجاز ملموس فى مجال التشغيل وخفض البطالة. 2 معدلات التضخم ما زالت عند متوسط سنوى 11.5٪ خلال يوليو 2014 حتى يونيو 2015، وهو معدل مرتفع نسبيًّا مقارنة بالسنوات السابقة، سواء قبل أو بعد 25 يناير 2011. 3 أما فى ما يخص معدل النمو الاقتصادى فقد ارتفع لما يزيد على 4٪ خلال العام المالى 2014- 2015، وهو رقم يجاوز المعدلات السابقة التى لم يتجاوز بها معدل النمو 3٪ خلال 2013- 2014 مثلًا وإن كان ما زال منخفضًا نسبيًّا. بناء على ما سبق، يمكن القول إن السياسة النقدية ما زالت لم تحسم عدة تحديات، أهمها توفير تمويل مناسب للقطاع الخاص المصرى بالجنيه المصرى (حيث إن 85٪ من الائتمان المصرفى يخصص لتمويل أذون وسندات الحكومة) أو بالعملات الصعبة التى ما زالت غير متاحة لكثير من المستثمرين بسبب نقص العملات الأجنبية بالبنوك. وهو ما أثَّر على معدلات البطالة فى السوق بالارتفاع النسبى، كما أثَّر على معدلات التضخُّم الناتجة عن نقص الطاقات الإنتاجية فى مصانع القطاع الخاص وخلق اختناقات بأسواق المنتجات ونقص المعروض من السلع. السؤال هو: متى يبدأ البنك المركزى مراجعة السياسات النقدية لتصبح أكثر تشجيعًا على الاستثمار والإنتاج والتشغيل، خصوصًا لمؤسسات القطاع الخاص الأكثر تشغيلًا على مدار الزمن والأكثر إنتاجية وكفاءة وقدرة على التصدير؟