بالطبع صنعنا إنجازًا عظيمًا بحفر قناة جديدة موازية لقناة السويس القديمة، وكسرنا أرقاما قياسية يندر أن تتكرر مستقبلًا، وأخذت طريقها إلى موسوعة «جينيس»، لكن لم أفهم معنى أننا ننظم حفلا أسطوريا لافتتاحها، صحيح أننا لم نبن مشروعا قوميا عظيما من سنوات، دفع المصريون تكاليفه الكاملة من جيوبهم، حتى لا نستدين من الخارج أو من الداخل، مما يثبت أن مصر لن يبنيها إلا المصريون بعرقهم قبل أموالهم، ولم يحدث فى التاريخ أن نهضت دولة بأموال مستوردة واستثمارات أجنبية، هذه الأموال تأتى حين نتقدم إلى الأمام ذاتيا، وفق رؤية شاملة للتنمية المستدامة. وصحيح أيضا أننا فى حاجة إلى حلم وأمل وتفاؤل، نتجاوز به كل محاولات التفكيك والهدم والإرهاب التى تعادينا وتعطلنا، فعلا نحن فى أشد الحاجة إلى دفعة معنوية هائلة تمد لنا جناحين نحلق بهما فى فضاء الحياة، لكن المبالغة آفة خطيرة، ونوع من القفز فى الفراغ، تبث تصورات وقدرات قد لا تكون صحيحة، كما لو أننا قادرون على الطيران والارتفاع فى السماء على طريقة عباس ابن فرناس، الذى سقط على «جذور» رقبته. قطعًا نحن اشتغلنا بجدية وصرامة فى حفر القناة، فلماذا نبالغ فى الاحتفاء بها وتقدير إمكاناتها ومواردها المستقبلية؟، فالتواضع فى الفرح والاحتفال ضرورة لأنه يضع كل شىء فى مكانه الصحيح ويُبلغنا بأن منظومة الأداء الفاعّل مستمرة، وأننا «يا دوب» على أول الطريق الشاق، وهذه الصورة أوقع كثيرا من شعب يتفاخر بما عمل، ويتباهى بما صنع. قد نتفهم الدوافع فى هذه المبالغات، ردًّا على حملات تشكيك ومعاول هدم ومآتم نواح نصبتها الجماعة وحلفاؤها ضد المشروع من أول يوم وما زالت تطارده حتى هذه اللحظة، وقد تابعت شخصيا واحدة من هذه المآتم فى جلسة بالمصادفة، وأسعدنى ردود الحاضرين فيها، فأمسكوا النائحين غسيلا ومكوى، حتى لزموا الصمت خجلًا. أى أن الأهم لنا أن نعمل وفق مصالحنا وحسب المعايير المعمول بها فى العالم، وليس ردًّا على انتقادات موجهة لنا من خصومنا وأعدائنا، فاحتفال بسيط وعملى دون بهرجة زائدة يبين أننا نجهز أنفسنا لأعمال ومشروعات اليوم التالى، فالقناة مجرد مجرى ملاحى، لكن الأهم منها هو مشروعات التنمية على ضفتيها، من تجمعات صناعية، ومناطق حرة، وتجارة حاويات، وتكنولوجيا وإلكترونيات، وخدمات، وتصنيع السيارات وتجميعها، فى أهم بقعة جغرافية تتوسط الكرة الأرضيّة، فالممر المائى مهما عظم تأثيره فى حركة التجارة العالمية له سقف فى الإيرادات لن يستطيع أن يتجاوزه، وعوائده فى تنمية البشر محدودة، لكن التنمية على ضفاف الممر هى التى تأخذ بأيدى مصر وتصعد بها إلى النهوض من المشكلات والأزمات الاقتصادية، خصوصا ونحن على وشك أن نصل إلى مئة مليون نسمة، يريدون طعاما وشرابا وملبسا ومسكنا ووظائف وعلاجا وانتقالا وزواجا وتعليما مختلفا عن تعليمنا المنهار حاليا. والذين يبنون المستقبل مهتمون بالعمل أكثر من اهتمامهم بالاحتفاء بما يصنعون! ومبروك لمصر قناتها الجديدة، لكن بعد حفرها هى عمل أُنجز وانتهى أمره، نفرح قليلا نرقص قليلا صافح بَعضُنَا بعضا ثم نلبس الأفرول وننغمس فى عمل اليوم التالى من الآن، فالمشوار ما زال طويلًا وصعبًا!