طرحنا فى المقالات السابقة تساؤلات حول أزمة المعرفة فى وعن المجتمعات الغربية، وقلنا إن جماعات العلوم السياسية والاجتماعية الغربية لم تعد قادرة على إنتاج معرفة عن مجتمعاتها، لأسباب تتعلق بتنظيم الدراسة والعمل وبنوعية الكتب التعليمية والمراجع الأساسية وبعوامل أيديولوجية، وطالبنا ببناء معرفة مصرية وعربية عن تلك المجتمعات، وتمنينا النجاح فى تفادى أخطاء الاستشراق فى أثناء بناء علم الاستغراب، واختزلنا تلك الأخطاء فى كون الاستشراق خطابًا يمجّد الذات الغربية وإن ادّعى دراسة المجتمعات الشرقية، وبالتالى انتقدنا خطاباتنا عن الغرب التى تمجّد الذات المصرية والعربية، وأنهينا حديثنا بالقول بأن تحليل خطاب الاستشراق والتعرُّف على مؤلفيه ومروجيه مدخل معيب لفهم الذات الغربية. ونحاول الآن تفصيل ما أجملناه، مع لفت نظر القراء إلى عدم إلمامى بكل جوانب الموضوع، وإلى كونى أتحدَّث بوصفى مواطن مصرى ينتمى إلى الطبقات الوسطى القاهرية، وعمل 30 سنة فى الدوائر الأكاديمية الفرنسية، فى القاهرة وباريس، وأضيف أن أغلب أصدقائى الفرنسيين من الجامعيين والفلاسفة غير المتخصصين فى شؤون الشرق الأوسط، وأن خبراء المنطقة زملاء أحترم وأجل الكثير منهم، وأننى لم ألتحق فى أثناء دراستى بقسم لدراسات العالم العربى، بل بقسم لدراسات السياسات والإدارة العامة، مما نجانى من القولبة والتأطير وحرمنى من التشبيك ومن الانتماء إلى شلل، أقول كل ذلك لأذكّر القارئ أننى لست من المتخصصين فى علوم الاستشراق أو نقده، وأن مصادر معرفتى فى هذا المجال عملية أكثر من كونها نظرية، ولهذا الوضع مميزات وعيوب، على سبيل المثال عندما أتحدَّث عن حصاد الاستشراق فإننى أنطلق مما أعرفه عن 50 سنة من البحث العلمى الغربى عن مصر وعن الجزائر، وأزعم أننى أعرف جيدًا ومن الداخل بعض الأوساط الفرنسية المؤثرة، وبالطبع تلك المعرفة العملية لا تحصّن ضد الخطأ، لأنها لا تضمن فى حد ذاتها صحة الاستنتاجات والتشخيص. أتفق مع نقد الاستشراق فى تشخيصه المركز على عيوب بنيوية فى المعارف الغربية عنّا، وأختلف معه فى الحيثيات وفى روايته الكبرى الرابطة بين الخطابات الاستشراقية والسياسة الإمبريالية ربطًا مبهمًا ملتبسًا. الأب الشرعى لنقد الاستشراق هو المفكر الأمريكى الفلسطينى إدوارد سعيد، وهو من مواليد القاهرة، والأب المجهول لهذا النقد هو المفكر المصرى الراحل الدكتور أنور عبد الملك، وكانت مرجعية عبد الملك ماركسية، أما أستاذ إدوارد سعيد وملهم أعماله ومنهجه فهو ميشيل فوكو، ونستطيع أن نقول إن أغلب المؤرخين وعلماء السياسة والاجتماع المتخصصين فى شؤون المنطقة متأثرون بدرجة أو بأخرى بأعمال فوكو، إما مباشرة وإما من خلال إدوارد سعيد، ولا أريد أن أخفى تفضيلى لأعمال أنور عبد الملك، وفضل وأهمية بحث الزميل الصديق الفرنسى توماس بريسون، الذى لفت نظرى إلى أهمية أعمال الراحل المصرى الكبير. يقول بريسون إن عبد الملك اتهم الاستشراق بالتخديم على السياسة الاستعمارية، برسم صورة لآخر شرقى متخلّف يختلف تمامًا عن الغربى الراقى، ولم يتأثَّر به بل ظل أسيرًا لماضٍ لا هروب من إرثه، وآخر شرقى له مسار تاريخى مختلف تمام الاختلاف، مسار حتم الانغلاق والجمود وعدم التقدم، وآخر تستطيع أن تتعرف عليه من خلال دراسة كتبه المقدسة، وغيرها من أمهات الكتب دون أن تعتنى كثيرًا بتاريخه الحديث ومجتمعه واقتصاده وعاداته وتطوّرهم عبر الأجيال، ولاحظ يريسون أن نقد عبد الملك يستهدف خطابًا أكاديميًّا، بينما ينطلق سعيد من نقد أدبى لروايات أدبية تؤسّس وتعكس المخيال والخطاب الغربى ككل، ويزيد ويقول إن عبد الملك كان رافضًا لوسط أكاديمى باريسى محدد ينتج فى ظرف تاريخى محدد وجديد أعمالًا تفوح منها رائحة العقلية الاستعمارية الرافضة لتحقيق الدول العربية لاستقلالها، وإن قال إن نقده يطول كل الخطابات الاستشراقية، مع بعض الاستثناءات مثل جاك بيرك. وللحديث بقية.