من قال لك إن أبواب السجون يمكن أن يأتى يوم وتوصد فى وجه أصحاب الرأى، من قال لك إن تصنيف السجين السياسى يمكن أن ينتهى ولا يبقى فى السجون سوى المجرمين المدانين بأحكام واثقة صادرة من قضاء مستقل وطبيعى؟ السجون صناعة مثل أى صناعة، لها آليات تشغيل، هل تعتقد أن سلطة يمكن أن تستثمر مليارات الجنيهات فى بناء سجون أو تركها على حالها، ثم تتركها خاوية على عروشها كالفنادق السياحية فى موسم كساد؟ هذه السجون لا بد أن تبقى، وهذه العنابر التى يقبع فيها السياسيون وأصحاب الرأى لا بد أن تحقق نسب إشغالها وإلا ربما حوكمت السلطة بإهدار المال العام. هذه ليست سخرية بقدر ما هى توصيف لواقع تاريخى مستمر، يتغير فيه كل شىء، الأيديولوجيات والوجوه وأنظمة الحكم وأسماء الحكام والقوانين ومواد الدستور، كل شىء يتغير إلا السجون والمحاكم الاستثنائية. علمتنا أفلام البوليس السياسى أن الثورة هى الحل لإغلاق المعتقلات.. وكان الضباط الأحرار ثائرين يبغضون السجن وأفعال السجان، بعضهم عاش مرارات الحبس وذاق علقمها، لكنهم حين تمكنوا استبدلوا السجان والسجناء لكنهم لم يهدموا السجون، وحين هدم السادات سجنا ليعدك بأن عهد الاعتقالات ولى، بنى غيره سجونا كثيرة. كان ضباطنا يوما ثائرين ولم تختف زنازين الرأى، وبقيت الزنازين مفتوحة واستمرت، حتى بعد أن قامت ثورة شعبية، وجاء ضباط غير ثوريين يؤدون مهمة رسمية بتكليف من الذى أسقطته الثورة، تعاملوا مع الوطن بثقافة الإرث الشرعى وكانت السجون جزءا من هذا الإرث. ولم يختلف الأمر فى عهد الرئيس المنتخب القادم من قلب الجماعة الدينية التى بنت مشروعيتها لدى شبابها على قصص السجون التى ما زالت تلاحقها، لكن الجديد فى عهد المنتخب أن تم ما يشبه خصخصة السجون بأماكن احتجاز أهلية أشهرها بوابات وغرف حديقة قصر الرئاسة. ومدنيون يمارسون الاستجواب والتعذيب. ولم يتغير شىء من بعد الثلاثين من يونيو فى أوضاع السجون. بقيت السلطة حريصة على نمو هذه الصناعة وانتعاشها. ولم تفرق بين قضايا السلاح وقضايا الهتاف. فوصلت نسبة الإشغال ذروتها فى عنابر الرأى. السجون صناعة متكاملة ثقافتها وآليات تشغيلها والقائمون عليها وموردوها المعتمدون ومواردها، لكن العنصر الأهم فى هذه الصناعة هو اختراع العدو. الفارق كبير بين نزلاء طبيعيين جنائيين وإرهابيين وبين سجناء رأى أو هتاف. النوع الثانى هو العدو الذى تم اختراعه منذ زمن. والفارق بين النوعين أيضا أن الأول جنائيون ومتهمون فى قضايا عنف هم من ينالون رخص العفو والخروج قبل نهاية مدد الحبس لا سجناء التظاهر. تقوم الثورات عادة للقضاء على السجان، وتنتهى فإذا بها تستبدله، ربما تتغير هويات المسجونين وأيديولوجياتهم، لكن تبقى الزنازين قائمة وتبقى عقلية السجان واحدة وثابتة، فالسلطة، أى سلطة ربما تشعر بالعار أو بفقدان الهيبة لو أبقت زنازينها خاوية من المختلفين معها سياسيا، الذين يمارسون اختلافهم بعيدا عن العنف، لذلك ربما تجتهد فى اصطياد هذا النوع تحديدا. حتى لا تبقى تلك السجون خاوية منه حتى ولو بشيطنته والتعامل معه بوصفه العدو الأشد خطورة.. وحتى لو كان هذ العدو مجموعة من الفتيات الصغيرات اللائى لم يستخدمن غير حناجرهن ولم يرتكبن جريمة غير الهتاف من دون ترخيص. فى هذا العيد كانت خططى أن احتفى مع أهالى الفتيات القابعات فى السجون بالعفو حسب ما توارد من أنباء. احتفى بهن وبالسلطة التى بدأت فرز أوراقها برشد، وتتجه إلى نزع فتيل من فتائل التوتر وتستجيب لنصائح مخلصة من داعميها والحريصين عليها، بإغلاق عنبر الفتيات على الأقل، وبأنه لا يجوز أن تحتجز فتيات بتهم كلها تدور حول الرأى والتظاهر. كمقدمة للتعامل مع باقى فتائل التوتر، لكن العفو استفاد به فى مطلع رمضان مدانون فى قضايا عنف وفى العيد مدانون فى قضايا جنائية. ليبقى الهتاف الجريمة التى لا تستحق العفو. والأصوات الداعية لإغلاق هذا الملف هى الأصوات التى لا يجب الإنصات لها.