كان الاقتصادي الكبير كينز، يرى في الكساد الاقتصادي أحد أهم وأصعب أمراض الاقتصادات الرأسمالية الحرة، فدخول أي دولة فى حالة كساد -أو بالمعنى البسيط تراجع فى معدلات النمو وتزايد فى معدلات البطالة لفترة ممتدة- يجعل من الصعب على آليات الاقتصاد الحر أن تتعامل بالطريقة التلقائية التى تعيد الأداء إلى مسار النمو المستدام مرة أخرى، لذلك كانت دعوة كينز فى أثناء أزمة الكساد العالمى فى 1929 وما بعدها إلى ضرورة أن تتدخَّل الحكومة باتباع سياسات توسعية، مالية ونقدية، حتى يتحرَّك الاقتصاد مرة أخرى ويخرج من عثرته. أما السياسات النقدية التوسعية فتشمل التوسُّع فى منح تسهيلات ائتمانية فى الإقراض أو إعادة جدولة سداد الديون المستحقة لمشروعات تعانى من ركود فى الإنتاج والمبيعات، وضعف الإيرادات والأرباح.. ولو أن السياسات النقدية تكون عادة أقل تأثيرًا فى أزمات الكساد من السياسة المالية. أما السياسات المالية التوسعية فتتضمن: توسُّعًا فى الاستثمار الحكومى، وتوسُّعًا فى الإنفاق العام بوجه عام (مثل خفض أسعار الضرائب على الأرباح أو الدخل أو القيمة المضافة.. أو توليفة من أى منها والآخر.. إلخ، أو التوسُّع فى التشغيل والأجور والمعاشات…)، واستخدام هذه الآليات أو بعضها يعتبر روشتة ضرورية اقترحها كينز لمعالجة الكساد الاقتصادى بوجه عام. ما علاقة هذا التحليل بأزمة اليونان؟ كما أشرت فى المقال السابق، الوضع فى اليونان حاليًّا هو نموذج لحالة كساد مزمن: فالناتج المحلى الإجمالى أقل من مستواه منذ أربع سنوات ب25٪، ومعدل البطالة تجاوز 20٪، والمديونية ضخمة تفوق 118٪ من الناتج المحلى الإجمالى. باختصار شديد، اليونان تعانى من حالة كلاسيكية من الكساد المستمر لأكثر من 5 سنوات. أما الروشتة التى تصر عليها الترويكا (الاتحاد الأوروبى، والبنك المركزى الأوروبى، وصندوق النقد الدولى)، فقوامها هو مزيد من إجراءات التقشُّف، مثل: خفض أكبر فى الإنفاق العام على الأجور، والدعم، ومعاشات الضمان، ورفع جديد فى أسعار ضريبة القيمة المضافة، وضريبة الأرباح التجارية إلى 28٪، وخفض الإنفاق العسكرى خلال العام الحالى والقادم، وإنشاء صندوق للأصول اليونانية الحكومية تتم خصخصتها. هذه الروشتة هناك شِبه موافقة عليها من رئيس الوزراء اليونانى، ولكن تدور المناقشات حول تفاصيل كثيرة مقابل الإصرار على التزام اليونان بهذه الروشتة تقدم الترويكا دفعة إنقاذ جديدة من القروض. والسؤال هو: هل تفلح هذه الروشتة فى إخراج اليونان من أزمتها؟ وفقًا للفكر الكينزى، فإن مزيدًا من السياسات التقشفية فى أثناء أزمة كساد كالتى تمر بها اليونان هو عكس المطلوب تمامًا. هذه السياسة الانكماشية سيتبعها بالضرورة استمرار حالة كساد الأعمال الخاصة، وصعوبة زيادة الإيرادات العامة، وصعوبة سداد المديونية المتراكمة، والدخول فى حلقة مفرغة من الركود وتراكم المديونية. ما الحل فى هذه المعضلة؟ الحل فى رأيى فى يد الترويكا ويتطلَّب السير فى عدة مسارات: أولًا: لا بد من إسقاط جزء من مديونية اليونان أو إعادة جدولة كبيرة لديونها. ثانيًا: لا بد من التخفيف من حدة برنامج التقشف المقترح، حتى تستعيد اليونان عافيتها الاقتصادية وتحقق معدل نمو إيجابيًّا مقبولًا يمكّنها من سداد أقساط ديونها. ثالثًا: لا بد من ضخّ استثمارات أوروبية ضخمة باليونان، بما يسمح بخلق فرص عمل وإنتاج وبما يحرّك الطلب الفعال فى السوق وينشّط المؤسسات الخاصة ويولّد إيرادات ضريبية تسمح بزيادة موارد الدولة. رابعًا: إن منطقة اليورو تضم تسع عشرة دولة أوروبية، بينها سبع دول قوية اقتصاديًّا، مثل ألمانيا، وفرنسا، وفنلندا، وهولندا، وبلجيكا، ولوكسمبورج، والنمسا، واثنتى عشرة دولة أقل قوة، وبعضها أكثر هشاشة، مثل اليونان، وإسبانيا، والبرتغال، وأيرلندا. وإذا كان لمنطقة اليورو أن تستمر فلا بد أن تدعم الدول القوية باقى الدول المتعثرة فى أزماتها، لا أن تزيد منها، فالتمسُّك بالحفاظ على اليورو كوحدة نقد لعدد كبير من الدول يستدعى أن يكون أداء كل دول اليورو متوازنًا ومتشابهًا نسبيًّا. ولعل اللقاء الأخير لوزراء مالية دول الاتحاد الأوروبى لبحث تبعات الاستفتاء اليونانى، ليس سوى إدراك لحجم الأزمة اليونانية والأزمات الأخرى المحتملة، والخلاف حاليًّا محتد بينهم. وحتى آخر لحظة قبل الاتفاق الذى تم يوم الثلاثاء، وافق عدد من وزراء المالية الأوروبيين على مقترح اليونان بطلب قرض 80 مليار يورو ومهلة 3 سنوات، لاسترجاع التوازن وسداد المديونية، ولكن وزير مالية ألمانيا طالب بطرد اليونان من منطقة اليورو لمدة 5 سنوات، حتى تتمكن من استعادة توازنها، كما طالب بأن تقوم حكومة اليونان بتسليم أصول حكومية قيمتها 50 مليار يورو لمؤسسة مالية مستقلة لتقوم ببيعها، سدادًا لمديونية اليونان. وفى صباح «الثلاثاء» الماضى تم الاتفاق بين الزعماء الأوروبيين على إنقاذ اليونان، وأهم ملامح الاتفاق الحذر، فتشمل: أولًا: إنشاء صندوق للأصول المملوكة للحكومة اليونانية بقيمة 52 مليار يورو، ومقترح أن يتم خصصتها، وتستخدم نصف هذه القيمة لضخ أموال فى القطاع المصرفى اليونانى، والباقى لسداد جزء من المديونية. ثانيًا: توفير تمويل قيمته 35 مليار يورو، جزء منه يوجّه لسداد الأقساط المتأخرة لصندوق النقد الدولى والبنك المركزى الأوروبى، وغيرها من الأقساط التى تستحق خلال الأسابيع القادمة. ثالثًا: الالتزام بتطبيق برنامج إصلاح كبير وعميق، يوافق عليه البرلمان اليونانى قبل أى بدء فى ضخ أى مساعدات لليونان. وفى حالة موافقة البرلمان اليونانى يكون على بعض دول الاتحاد الأوروبى أيضًا أن تحصل على موافقة برلماناتها على تنفيذ هذا الاتفاق. ومن المتوقّع أن يؤثّر هذا الاتفاق على الأوضاع السياسية فى اليونان ومدى تقبُّل الشعب اليونانى لتراجع رئيس وزرائه عما وعد به من رفض البرامج التقشفية، كما يمكن أن يقوى المعارضة ضد ميركل، لأنها أعلنت إصرارها على طرد اليونان من منطقة اليورو، ثم تراجعت. عمومًا، لا أظن أن أزمة اليونان قد انتهت تبعاتها الاقتصادية أو السياسية بعد، سواء على مستوى اليونان أو ألمانيا أو باقى الدول الأوروبية.