منذ بداية الثورة، يتعرض الشعب المصرى لمسلسل «مشع» من الاشتغالات الفاضية التى أدت بنا إلى الدوران فى نفس المكان، بينما تتفرغ جماعة المافيا لتستيف تشريعاتها وأوراقها، وتجهيز مرشحيها واختراق جميع المجالات العامة والخاصة فى الدولة، تنفيذا لخطة التمكين والأخونة والتخريد، تمهيدا لتقطيع البلاد لقطع غيار وبيعها للمستثمرين القطريين وغيرهم، مثل لوطات وكالة البلح. وتعريف الاشتغالة، أنها ملهاة فارغة تشتت انتباه الشعب لإلهائه عن الجريمة التى تحدث أو ستحدث، فالنشال مثلا يشتغل الضحية بأن يدفع بسيدة أو طفل فى مأزق ليصطدم بالشخص المراد نشله، لتشتيت انتباهه بينما يقوم النشال باستخلاص المحفظة العمرانة بصنعة لطافة من جيب الضحية المشغول بإنقاذ السيدة التى كُسرت رجلها نتيجة للوقعة، أو الطفل الذى يبكى بعد سقوط علبة كشرى من يديه نتيجة الاصطدام، أو منع رجل غاضب من ضرب صبى صغير، وهكذا. نفس الشىء تفعله الجماعة الإجرامية، فهى تُلهى الشعب فى خناقة وهمية، بينما تقوم هى بتنفيذ الخطوة التالية من مخطط نشل البلاد، والسيطرة على مقدراتها ومواردها ووزاراتها وآثارها وشركاتها ومؤسساتها العامة والخاصة. ففى البداية ألقت فى طريق الثوار باشتغالة استفتاء مارس، ثم الدستور أم البرلمان، ثم لغز الطرف الثالث أم الطرف الأول، تبعت ذلك بإطلاق بالونة المبادئ الدستورية أم الإرادة الشعبية، مرورا بفزورة «أمه أمريكية ولا مصرية»، ومفاضلة «تحب تعارض مرسى بالليمون أم شفيق بزيت الخروع»، وهكذا. وعبقرية الاشتغالة تكمن فى أنها فارغة، فالسيدة التى وقعت لم تنكسر رجلها ولا حاجة، وعلبة الكشرى وقعت قبل ذلك عشرات المرات وتم جمعها مع حصى الطريق، والرجل يتظاهر بضرب صبى صغير هو فى الحقيقة ابنه، والاثنان شريكا النشال وهكذا. ونفس الشىء ينطبق على اشتغالات الجماعة، فنتيجة الاستفتاء نسخها الإعلان الدستورى، ودخلنا فى طريق دائرى آخر، والطرف الثالث هو نفسه الطرف الأول وقوامه الناس الطيبون، الذين اقتحموا السجون وأخرجوا رجال الجماعة منها، والمبادئ الدستورية هى التى تضمن سيادة الإرادة الشعبية لا إرادة مكتب الإرشاد، والراجل الدجال أمه مصرية وفى نفس الوقت هى أمريكية، ومرسى وشفيق وجهان لعملة واحدة تمثل النظام القديم بجناحيه وطنى - إخوان. والآن، نأتى لاشتغالة مهمة تمهد للسريقة الكبرى، وهى اشتغالة «المشاركة أم المقاطعة»، حيث تطالب المعارضة بضمانات لنزاهة الانتخابات، وتصرخ الجماعة وترقع بالصوت الحيانى «يا لهوى انتو بتطعنوا فى شرفى ونزاهتى»، ويبدأ الرئيس فى مونولوج الحوار مع أهله وعشيرته، ولا يأتى الحوار بما تريده المعارضة، فتقرر المقاطعة، ويدخل خواجة أشقر على خشبة المسرح، دليلا على أن المسرحية أو الملهاة «أمريكانى»، وفى آخر لحظة يستجيب الرئيس للوساطة المحلية والدولية، وينفذ طلبات المعارضة صوريا، بينما يطلق اشتغالة أخرى مثلما فعل عند التظاهر بإلغاء الإعلان «الدستورى» قبل الاستفتاء على الدستور بأيام، وبالطبع تضطر المعارضة أو الجزء الأكبر منها للمشاركة الساعة إتناشر إلا خمسة ليلة الانتخابات، فى غياب حملة انتخابية فاعلة، وبعد أن يكون معظم مرشحيها قد تسربوا إلى حزب الجماعة أو من يدور فى فلكها أو قرروا النزول مستقلين. وتشارك الأحزاب القوية الفاهمة، أما من سيصرون على الاستمرار فى المقاطعة، فهم عبارة عن زعماء دون أحزاب، ولم يكن لديهم مرشحون من الأصل أو نية للمشاركة فى الانتخابات البرلمانية، أو زعماء لديهم أحزاب ناشئة يديرونها من منازلهم أو من منابر الفضائيات، وبالتالى لم يبذلوا أى مجهود فى إعدادها بصورة احترافية للانتخابات، فخشوا أن يخوضوا المنافسة ويخرجوا بنتائج هزيلة، تتناقض مع الصورة المتضخمة التى يرسمونها لأنفسهم، وهما لا بتوع انتخابات ولا حاجة من أصله، ونيتهم التقاعد من الحياة السياسية بسرعة قبل أن ينكشف أمرهم. وهناك طبعا لمة كبيرة على الهامش، ممن يسهمون بحسن نية فى نجاح عملية النشل من خلال التزييط، حيث ينخرطون فى مناظرات ومساجلات حول مزايا المشاركة والمقاطعة، وتزداد المناقشات سخونة وقد تتطور إلى تشابك بالأيدى، ويتصور المتنازعون والمشاهدون نتيجة لقوة المؤثرات الصوتية أنهم جزء من العملية السياسية، بينما هم لا مرشحون ولا أعضاء فى أحزاب ولا يحزنون، ثم يأتى من أقصى المدينة رجل يسعى، ويصعد على خشبة المسرح، مناديا بتدخل الجيش وضرورة إشرافه على المرحلة الانتقالية، رغم أن هتافات «يسقط حكم العسكر» كانت على لسانه من لحظات وجيزة، وما زال الجرافيتى الذى يخلدها ملطوعا على كل حيطة أو باب دورة مياه فى نفس المدينة. السؤال الأول: هل دخول الانتخابات معناها التخلى عن الثورة؟ بالعكس، دخول الانتخابات مع الإعداد الجيد من أحزاب المعارضة خطوة للأمام على طريق منع الاحتكار السياسى لفصيل واحد صغير ومتطرف ومرفوض ومكروه من الشعب، لكنه فصيل كثيف التمويل، جيد التنظيم، نشيط ومجتهد، حاضر فى كل مناسبة وبدون مناسبة. إذن يصبح السؤال، لماذا لم يُعد الطرف الآخر نفسه للانتخابات؟ لماذا لا يستغل هذه الفرصة الذهبية حيث ضاق المصريون بهذا الفصيل المتطرف الدجال النشال، واكتشفوا ممارساته الإجرامية لأول مرة، ورفضت أغلبية عواصم المحافظات ومدنها سياساته وممارساته ودستوره فى الاستفتاء الماضى، رغم عدم قيام المعارضة بواجبها فى التجهيز لذلك الاستفتاء، واكتفائها بالصريخ فى الفضائيات وانشغل بعضها الآخر فى التوسل للمجرم واسترحام قلبه عله يتوقف عن السريقة! السؤال الثانى: هل سيتم تزوير الانتخابات فى غياب الضمانات؟ احتمال راجح. لكن من يدخلون الانتخابات يعلمون جيدا أن وجود مرشحين أقوياء بعائلاتهم ومؤيديهم ووكلائهم وفريقهم الانتخابى، هو الضمانة الحقيقية لعدم التزوير، لأن المراقبين المحليين أو الدوليين وجودهم لا يمنع التزوير بل يفضحه، أما التصدى للتزوير ووأده فى مهده، فهو مهمة المرشحين وأنصارهم، وبفرض حدوث التزوير، تكون هذه فرصة لفضح الجريمة وتوثيقها وملاحقتها قانونيا وسياسيا وإعلاميا، محليا ودوليا، ومن ثم نزع الشرعية عن الانتخابات القادمة، أما عدم خوض الانتخابات، فيسهل على الحرامى السريقة، وتحصل الجماعة على الأغلبية دون تزوير أو خروقات، علما بأن الجماعة فى أفضل حالاتها وبخروقات كثيفة حصلت على 37% فقط فى الانتخابات البرلمانية الماضية، قبل قيام أحزاب واعدة موجودة اليوم مثل الدستور والمؤتمر، وفى الوقت الذى لم تكن الجماعة قد ظهرت بعد حقيقتها الإجرامية أمام الشعب. إذن يصبح السؤال، هل مجرد الخوف من الحصول على عدد قليل من المقاعد بالنسبة لأحزاب ناشئة أعطى انطباعات متضخمة عن قوتها، يبرر أن تُسلَّم البلاد «تسليم أهالى» للجماعة الإجرامية حتى تتم مخطط الأخونة الإجرامى؟ السؤال الثالث: هل يتدخل الجيش ويتصدى لمخططات الإخوان، ويتعلم من أخطائه التى أدت إلى فشل المرحلة الانتقالية الأولى، ويرسم خريطة طريق جديدة، ويجبر جماعة المافيا على الخضوع للقانون، وحل الميليشيات وتسليم الأسلحة، وغيرها من إجراءات تضمن إتمام عملية التحول الديمقراطى بصورة صحيحة؟ ألم ينقلب مرسى على الشرعية الدستورية للمرحلة الانتقالية وأطاح بالمجلس العسكرى فى أغسطس بالمخالفة للإطار الدستورى الذى أقسم على احترامه لحين إتمام المرحلة الانتقالية، ووجود إطار دستورى جديد؟ ألم ينقلب مرسى على الدستور مرة أخرى بإعلاناته اللا دستورية فى نوفمبر حيث نصّب نفسه حاكما بأمره ولا راد لقراراته؟ ألم ينقلب مرسى على الدستور مرة ثالثة عندما أرسل ميليشياته تحاصر المحكمة الدستورية التى نصبته قبلها بأشهر معدودة رئيسا للبلاد؟ ألم ينقلب مرسى على الدولة كلها عندما أرسل ميليشياته عند الاتحادية تقتل المتظاهرين وتعذبهم وتسحلهم؟ لماذا لم يتدخل الجيش فى كل هذه المناسبات وهل يتدخل الآن؟ الإجابة: فى تقديرى لن يتدخل الجيش إلا فى حالة نشوب مواجهات مسلحة واسعة وسقوط دماء غزيرة تنذر ببداية حرب أهلية، وقد تعلمت الجماعة وأجنحتها الإرهابية هذا الدرس جيدا بعد موقعة الاتحادية، وحرصت على إبعاد ميليشياتها عن الصورة تجنبا لإعطاء مبرر لتدخل الجيش. إذن يصبح السؤال هو: هل تتحمل المعارضة مسؤولية وصول الأمور إلى الدرجة الكارثية التى تسوِّغ تدخل الجيش؟ لن أسأل هل تتحمل الجماعة وصول الأمور إلى تلك الدرجة الكارثية والمقامرة بإسقاط الدولة المصرية، نتيجة لأسلوب التكويش ومخطط التمكين والأخونة لجماعة تمثل أقلية متطرفة، ورئيس حصل على 25% فقط فى الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، ولم ينجح فى الثانية إلا لأنه كان يتنافس مع رمز للنظام القديم، لن أسأل لأننى أعلم أن الجماعة لا يهمها إسقاط الدولة المصرية، فهى لا تعترف أصلا بالدولة الوطنية، وتجاربها فى إسقاط وتقسيم الدول حاضرة سواء فى فلسطين أو السودان. إذن، المعارضة «الوطنية»، هى التى يجب أن تتنبه، رغم أنها ليست فى السلطة وليست مسؤولة دستوريا، لكنها مسؤولة معنويا وأدبيا ووطنيا، وتدرك أن الطرف الآخر يمكن أن يقبل بشق الطفل نصفين، لأن تخريب البلد يسمح بتخريده وبيعه قطع غيار، وهو هدف أصيل لجماعة المافيا التجارية، ظهرت معالمه واضحة لكل ذى عين. ويأتى السؤال الأهم: ما خطة المعارضة؟ وهل تقبل أن تخاطر بمستقبل الوطن وهى تعلم أن الاحتياطى النقدى السائل من العملات الأجنبية قد نفد بالفعل، وبالتالى ستكون هناك مشكلات رهيبة نتيجة لنقص السلع الأساسية المستوردة ومنها قمح الخبز والوقود وغيرها، فضلا عن مستلزمات التشغيل والإنتاج للاقتصاد، وهو ما يمكن أن يؤدى لتوقف العجلة الاقتصادية تماما. وهل الحفاظ على صورة وهمية متضخمة للذات يستحق تعريض البلاد لهذه المخاطر بحجج واهية؟ ربنا يدّى كل واحد على قد نيته.