ينظر الكثيرون حولهم، فيجدون العمارات شاهقة والسيارات فارهة، والشوارع عامرة والتليفونات ناطقة، والأسواق مزدحمة والبنوك بنقود العملاء متّخمة، والعيش فى المخبز والخضار فى السوق، وحوادث السطو والسرقة محدودة نسبيًّا، وأعمال العنف محصورة فى أماكن قليلة، بينما الحياة الطبيعية تأخذ مجراها فى كل مكان آخر، وبالتالى يشعرون بالأمان، ويأخذون وجود الدولة المصرية كأمر مسلم به. وليس الهدف هنا تخويف القارئ أو خلق فزاعة جديدة من انهيار الدولة، ولكن التنبيه ودراسة المخاطر التى تحيط بالدولة المصرية فى هذه اللحظة. الدولة، عبارة عن مجتمع منظّم يعيش على رقعة أرض محددة تحت قيادة سياسية موحدة. والسبب الوظيفى لظهور الدولة، هو تقديم خدمات حياتية لأفراد المجتمع، يعجز أى منهم عن أن يحصل عليها وحده أو يصعب عليه ذلك، مثل الطرق والكبارى والأمن الداخلى والخارجى وهكذا. ومن أجل تقديم هذه الخدمات الجماعية، تحتوى الدولة على مجموعة من المنظومات التى تعمل وتتفاعل وتتشابك لتشكل معًا منظومة متكاملة، فكل من هذه المنظومات تمثل عمودًا يقوم عليه بنيان الدولة، وتأتى الحكومة لتدير هذه المنظومات وتتحقق من حسن عملها وتطور منها، وتتخذ القرارات والسياسات والتشريعات التى تحدد شكل وطريقة عمل هذه المنظومات، والموارد المخصصة لكل منها، وآليات ومصادر تمويلها. وللإنصاف، دخلت الدولة المصرية فى حالة ضعف وتحلل منذ عقود عديدة، ظهر فى قصور وظيفى لأداء هذه المنظومات، مثل الأمن والتعليم والصحة، والنقل الداخلى والإسكان والتراخيص، والتشريع والأمن والعدل والسياسة والإعلام.. إلخ، ونتيجة لهذا القصور والفشل فى أداء هذه الوظائف الحياتية، ظهرت المنظومات الموازية (مثل الدروس الخصوصية، والعلاج الخاص، والميكروباص، وشركات الأمن الخاصة والبلطجة، والجماعات والحركات السياسية غير الرسمية، والمدونات والشبكات الاجتماعية.. إلخ)، وتشابكت هذه المنظومات الموازية وتفاعلت بدورها مع بعضها البعض، حتى تكون ما أطلقنا عليه «الدولة الموازية» فى سلسلة من المقالات نشرت فى الفترة من 2002 إلى 2006. ويمكن القول بأن ثورة يناير كانت تعبيرًا عن لحظة تقلصت فيها سلطة الدولة الرسمية مقابل تعاظم سلطة الدولة الموازية، فسقطت الدولة الرسمية بقرار من دولة موازية فى ميدان التحرير وباقى ميادين الثورة، التى حلّت محل مجلس الشعب بل وجزء من السلطة التنفيذية. وصاحب الفترة الأولى للثورة المزيد من التصدع فى أعمدة الدولة، فقد انهار جهاز الأمن الداخلى بالكامل، وحملت القوات المسلحة عبئًا جسيمًا للحفاظ على ما تبقى من تماسك بنيان الدولة، فى مواجهة انفجار القدر المضغوط، حيث خرجت كل طوائف الشعب المقهورة تعبّر عن غضب كان مكتومًا لسنوات وعقود، فالبعض يطالب بزيادة مبررة فى الرواتب، والبعض الآخر يطالب بإسقاط الديون أسوة بغيره، وآخرون يطالبون بتغيير الهياكل والقيادات الفاسدة وهم محقّون، ومتطرفون يطالبون بتطبيق رؤيتهم المتشددة فى التشريع، وإخوان كاميليا يطالبون بكاميليا، وهكذا. وفى نفس الوقت، قام عدد مؤثر من أصحاب الأعمال بتصفية أو تقليص أعمالهم خوفًا من المحاسبة أو الانتقام، وبعضهم نجح فى تحويل أرصدته لخارج مصر، كل هذا فى الوقت الذى كانت فيها أعمدة الدولة بالفعل فى حالة سيئة ومهترئة، وفى حاجة إلى تدخل إصلاحى سريع بالتنكيس والتقوية أو إعادة البناء والهيكلة، وهو ما لم يتم. وفى نفس الوقت، سعت جماعة الإخوان المسلمين للهيمنة على المشهد السياسى بعد الثورة، وأقنعت المجلس العسكرى بقصة وهمية عن قدرتها على التحكم فى مسار الحراك الثورى، فانفردت برسم خريطة التحول الديمقراطى التى فصّلتها لمصلحتها الخاصة باستخدام نظرية الروافع المتتالية. وتتلخص نظرية الروافع المتتالية فى تحويل التأييد الشعبى المحدود للجماعة والذى بلغ فى انتخابات مجلس الشعب حوالى 37% -فى غياب قوة كانت أساسية فى المشهد السياسى السابق وهى الحزب الوطنى المنحل- حيث نجح الإخوان فى تحويل هذه النسبة إلى سيطرة بنسبة 100% على الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، من خلال أن تفوض خريطة الطريق البرلمان فى اختيار أعضاء التأسيسية، مع رفض وضع أى معايير للاختيار، فأصبح هذا يعنى أن أى تيار أو تحالف سياسى يملك 51% من مقاعد البرلمان، يستطيع أن يختار 100% من أعضاء اللجنة التأسيسية. ثم جاءت الانتخابات الرئاسية وظهر بوضوح أن التيار الطائفى لا تزيد شعبيته عن 25% أو على الأكثر 33% من الأصوات رغم بذخه الشديد فى الإنفاق، وأصبح السؤال، كيف سيستطيع الإخوان والسلفيون وحدهم أن يحكموا البلاد وهم أقلية متطرفة وبعيدة عن الوسطية المصرية، خصوصًا فى مرحلة من المفترض أنها انتقالية، يتم وضع أسس العملية السياسية فيها. ومن أجل أن يفوز مرسى فى الانتخابات، سعى إلى تكوين جبهة من القوى الثورية لتؤيده فى المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وفى المقابل، قدم عدة وعود، مها إعادة تشكيل التأسيسية بصورة متوازنة. ولكن بعد فوزه، تنكّر مرسى لتعهداته، وزاد عليها بأن انقلب على الإطار الدستورى الذى أقسم على احترامه، مرة فى قرارات أغسطس، والأخرى فى قرارات نوفمبر التى أشعلت الغضب ضده، وقامت ميليشيات التيار الطائفى بحصار المحكمة الدستورية العليا ومدينة الإنتاج الإعلامى، وصولًا لأحداث الاتحادية التى نزلت فيها ميليشيات الإخوان وقتلت وجرحت وعذّبت أكثر من ألف مصرى ومصرية، وتم التعذيب فى المساجد القريبة من وداخل القصر الجمهورى نفسه. وبقيام الإخوان باستخدام هذه الميليشيات فى قتل مصريين، انهار ما بقى من دولة القانون وتخضّبت أيدى الجماعة بدماء المصريين، وأصبحت البلاد فى حالة حرب أهلية. فطبقًا لتعريف ماكس ويبر، فإن إحدى خواص الدولة أنها تحتكر العنف المشروع من خلال الشرطة والجيش، فجاءت ممارسات الإخوان لتهدم ركنًا جديدًا من أركان الدولة. أما المقوم الأساسى للدولة، وهو بمثابة صبة الأساسات التى ترتكز عليها باقى الأعمدة، فهو وجود مفهوم موحّد يتبناه أهلها للتعايش السلمى المشترك الذى يوثّقه فى العادة إعلان للمبادئ والحقوق أو دستور، وعندما طرح مرسى مسودة دستور غير توافقى للاستفتاء عليه، وهو الدستور الذى يصفه برهامى بأنه يضع قيودًا كاملة على الحريات لم توجد من قبل فى أى دستور مصرى، فقد نسف هذا الأساس، حيث صوت 57% من أهل القاهرة عاصمة البلاد ضده، ولكن هذا الدستور مرر بنسبة 63% فى استفتاء حفل بالتجاوزات، ولم يمكن تمريره سوى بالاعتماد على المناطق البعيدة عن أعين الإعلام ورقابة المجتمع المدنى أو التى تعانى من سوء الخدمات التعليمية أو الأماكن التى لم تصل إليها الأحزاب الجديدة بعد. وفى كل الأحوال، فقد قسم هذا الدستور المصريين بدلًا من أن يوحّدهم، ضاربًا أساس الدولة المصرية فى مقتل. ومع غياب وجود توافق وطنى حول الدستور وقواعد العملية السياسية، والرفض الشعبى لمحاولات جماعة الإخوان الهيمنة على البلاد و«أخونة» مفاصل الدولة، تصاعدت الاحتجاجات وأصبح النظام السياسى مهددًا بالانهيار فى أى لحظة، مما أدى بالطبع إلى آثار اقتصادية خطيرة، فقد تراجعت حركة السياحة والاستثمار، وتراجعت العملة الوطنية لأدنى مستوى لها على الإطلاق، مع تصاعد عجز الموازنة والدين العام لأرقام غير مسبوقة فى تاريخ مصر، وأصبحت مصر على شفا الإفلاس، وقيل إن الحكومة قد تعجز عن سداد رواتب موظفيها أو قد تضطر «لطبع نقود وهمية»، مما يؤدى إلى موجة غلاء. وعندما تنصّل مرسى من وعوده مرة أخرى بتعديل الدستور، علاوة على غياب أى تحقيقات فى وقائع الاتحادية، اندلعت الاحتجاجات فى ذكرى الثورة، وتأزّمت الأمور لدرجة كارثية، خصوصًا فى السويس وبورسعيد مع سقوط خمسين شهيدًا وآلاف الجرحى، وفرض حالة الطوارئ وحظر التجول، الذى لم يمكن تطبيقه وتحداه شعب مدن القناة، وبهذا انهار عمود آخر، وهو هيبة الدولة. إذن تصدّعت أعمدة الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمن والقضاء واحترام القانون والدستور بل وهيبة الدولة نفسها، مع وجود مخاوف نتيجة لتصريح وزير الدفاع تتعلق بتماسك الجيش نفسه، وهو خط الدفاع الأخير للدولة المصرية، التى تقترب بسرعة من نقطة اللاعودة. ومع استمرار حالة الاحتراب السياسى وانتشار الميليشيات والأسلحة، والتربص بين التيار الطائفى وباقى التيارات، مما يضع على هذه الأعمدة المزيد من الأحمال وبالتالى يضاعف من مخاطر انهيار الدولة ككل. كيف نخرج من هذه الأزمة؟ مفتاح حل كل هذه الأزمات هو تصميم المبنى وأساساته، أى الدستور وقواعد اللعبة السياسية، ولا بد من الوصول إلى حل سياسى بسرعة يتضمن تعديل الدستور ورسم خريطة طريق لمرحلة انتقالية جديدة، وإلا قد ينهار النظام السياسى، مما قد ينتج عنه انهيارات فى أعمدة أخرى تتهاوى بصورة متتالية مثل قطع الدومينو. وبالطبع انهيار النظم السياسى قد يؤدى إلى المزيد من العنف بين الأنصار الغاضبين من الطرفين، كما سيرسّخ حالة التربص على فرض استطاعة الطرف الآخر أن يشكل مجلسًا رئاسيًّا أو سلطة انتقالية. أما إذا أصرّت السلطة على الاستمرار فى هذا الوضع المستقر، تكون كمن يحاول أن يجعل خروفًا يقف على رجل واحدة بدلًا من أربع أرجل، وهو وضع غير مستقر ويجعل الخروف فى النهاية يسقط سقوطًا مدويًا.