رغم أن الكاتب والأديب والمبدع والناقد والمترجم يحيى حقى له أعمال شهيرة جدا، وملأت شهرتها والحديث عنها الدنيا، تناولا نقديا، أو مناقشات حرة، مثل «قنديل أم هاشم» أو «البوسطجى»، أو «كناسة الدكان» أو «خليها على الله» أو «صح النوم»، فإن ل«عطر الأحباب»، مكانا خاصا عندى، ودوما أعاود تصفح هذا الكتاب الفريد من نوعه، نقدا وإبداعا فى النقد. ففى هذا الكتاب كتب أجمل ما قيل فى «رباعيات» صلاح جاهين، وأنا لا أخلط -هنا- بين القول والكتابة، فيحيى حقى عندما يكتب تشعر بأنه يخاطبك عن قرب، ويحدثك من فوق مصطبته الشهيرة، وكأنه كذلك يخصك وحدك بالكلام، وهذه أسرار كتابية ينفرد بها يحيى حقى بين مجايليه ورفاقه مثل توفيق الحكيم وطه حسين وعباس محمود العقاد، ذوى المنصات العالية دوما، وهذا لا يقلل من شأنهم على الإطلاق، ولكن يحيى أبسط وأرق وأقرب، وينطوى على ذات العمق الذى تنطوى عليه كتابات الآخرين. يقول عنه صالح مرسى، مؤلف «رأفت الهجان» و«الحفار» و«دموع فى عيون وقحة»: «اكتشفت أن الرجل عندما يكتب يتحول من أديب إلى صائغ ذى ذوق رفيع، فهو ينتقى الكلمة المناسبة للكلمة التى تسبقها والتى تليها، تتحول الكلمات فى يده إلى فصوص من الماس والعقيق والزمرد واللؤلؤ.. هو جهد لو عرف الناس المعاناة التى يعانيها هذا الأديب الذى يعشق بعد الحقيقة، الصدق، أن توضع الكلمة فى مكانها الصحيح، كى تعطى المدلول الدقيق للموقف أو الإحساس.. التدفق موجود، والعطر يفوح، والعاطفة متأججة». هذا إحساس رجل وكاتب اقترب منه، وعاصره، وأدار معه حوارات كثيرة، وكتب عنه ما يقرب من كتاب كامل، وأحس به. ربما يختلف إحساسى بيحيى حقى عن إحساسه، فحقى لم يكتب لتكون كتابته فصوصا من الماس، بل العكس، هو يكتب ويقول ما هو أبسط من ذلك، ولكن لغة التعظيم والتفخيم والإكبار هى التى تتلبس معظم من اقترب من حقى. ولم يكن صالح مرسى فقط هو المفتون بيحيى حقى، بل إن كثيرين من مجايليه فتنوا به، وكتبوا عنه، ووضعوه «محل تأمل»، كحالة إبداعية ونقدية وثقافية وفكرية فريدة. ويكتب علاء الديب عن كتاب «عطر الأحباب» فى بابه الشهير «عصير الكتب»، وفى العدد الصادر من مجلة «صباح الخير» بتاريخ 27 مايو 1971: «إننى أعتقد أن القسم الأول من هذا الكتاب الصغير يرفعنا إلى نوع من النقد الخالص للفن، نادرا ما نعثر عليه فى كتابات كتّابنا فى هذه الأيام، يقوم به الأستاذ يحيى حقى فى رشاقة الفنان مستمدا أفكاره من أحاسيس وأزمات التعبير، فتأتى هذه الأفكار فى حرارة الواقع المعيش». وربما تأتى قيمة يحيى حقى من بحثه عن المهمشين والمستبعدين والذين تغفلهم صفحات المجلات والصحف والإذاعات وقاعات الندوات وأروقة المؤسسات الثقافية الكبرى، وإذا رحلوا أغلق التاريخ أبوابه دونهم، وضرب عليهم أقفاله المحكمة، لذلك سنجد يحيى حقى يقدم كتّابا شبابا لا يعرفهم أحد على الإطلاق، مثل هذا الكتاب الذى قدمه عام 1960، وكان عنوانه «عيش وملح»، وهو مجموعة قصصية ضمت إبداعات جميلة لشباب ينشرون لأول مرة إبداعاتهم فى كتاب، منهم عز الدين نجيب وسيد خميس ومحمد جاد ومحمد حافظ رجب، ثم قدم كتّابا فى كتبهم مثل كاتب اسمه حمدى أبو الشيخ، وكاتب آخر اسمه عادل أحمد، ربما لم تكتب لهم الشهرة، ولكنهم كانوا فى أزمنتهم يكتبون كتابة يراها يحيى حقى أنها جيدة. وهناك البعض يأخذون على يحيى أنه هو الذى قدّم كاتبا اشتهرت كتاباته فى ما بعد، وتحولت رواياته إلى شاشة السينما، وهو الكاتب إسماعيل ولى الدين، ولا أجد فى هؤلاء الكتاب الذين يؤاخذون يحيى حقى سوى أنهم متعالون على كاتب يكتب بمقاييس زمنه، ولم يقل يحيى حقى عندما قدمه فى «حمام الملاطيلى» سوى ذلك. هذا عن الكتّاب الشباب والجدد، أما عن الذين تجاهلتهم الميديا مثل فاروق منيب وعبد الله الطوخى وصالح مرسى ومن شابههم، فكان يحيى حقى هو أول من كتب عنهم، كما يذكر صالح مرسى نفسه، وأما من أخرجهم التاريخ من غرفه الغامضة فنجد أن يحيى حقى يفسح لهم مكانات واسعة ورقيقة وفاتنة، ويكفى كتابه عن «فجر القصة المصرية القصيرة»، وقد نقّب فيه حقى عن روّاد القصة المصرية، فلم يكتفِ بالحديث عن محمد تيمور الكاتب العظيم والأشهر فى جيله، ولكنه كتب عن محمود طاهر لاشين وعن الأخوين عيسى وشحاتة عبيد ومحمد أمين حسونة وإبراهيم المصرى وحسن الشريف وغيرهم. وسوف أشير فقط هنا إلى كاتب مسرحى مهم جدا، وقد كتب عنه فصلا مثيرا فى كتابه هذا «عطر الأحباب»، الكاتب هو عباس علام، الذى اشتهر بمسرحياته الرائدة مثل عمله الرائع عبد الرحمن الناصر، وهى المسرحية التى افتتح بها خليل مطران فاعليات المسرح القومى عام 1937. لا تأتى أهمية ما كتبه يحيى حقى عن عباس علام من تحليله لمسرحه أو كتاباته عموما، رغم أن لفت النظر إلى هذا الكاتب بهذه القوة كان ضروريا، ولكن التاريخ ما زال نائما بعمق، والحياة الثقافية ما زالت تغط فى سبات وتجاهل عميقين تجاه القمم الشاهقة والغائبة. ما لفت نظرى هو الحديث عن قصة حب خرافية بين عباس علام والممثلة اليهودية فيكتوريا موسى، وكتب علام كتابا ظل غائبا حتى الآن عن النشر، ووقعه ب«عبد إيزيس»، والنصوص التى اقتبسها حقى فى دراسته عن علام تعد فريدة فى هذا المجال. وفى النهاية أقول إن كتاب «عطر الأحباب» من أجمل الكتب وأقربها إلى روحى، وأعتقد أن مثل هذه الكتب لا بد أن تدرس فى المعاهد والكليات.